كوميديا ياسر العظمة الحائرة بين "البعث" و"الثورة"

راما جرمقاني

الأحد 2020/09/20


"ألفك لفًا بالبلد مسارهُ.. وهارتيا ماي دارلينغ سريعُ الترمبلِ
فهومي داماسٌ وهومك لندن.. وبتويننا الدستينس فيري مطوّلِ"..

هو مقطعٌ من قصيدة باللغة الإنكليزية ألقاها بالطريقة العربية "العربلمية" الممثل السوري ياسر العظمة في إحدى لوحات مسلسله المعروف "مرايا". مقطعٌ يسخر فيه من الأسلوب الركيك للشعر، ولا يزال السوريون يتداولونه حتى اليوم، لكنه في الواقع لا يختلف كثيراً عن قصيدته التي أهداها لدمشق في عمله الجديد الذي نشره عبر مواقع التواصل. 

بعد غياب سنوات، عاد ياسر العظمة، الممثل السوري الذي يقدسه البعض أحيانًا، رغم أدائه
المتكلف والمتصنع. فهو لم يطوّر منذ أن كان ينظر للكاميرا في الثمانينيات ويخاطبها قائلًا: "شوفو الناس شوفو"، محركاً حاجبيه، ومستعرضاً ثقافته الفرنسية والإنكليزية وحتى اللغوية العربية باستخدام القوافي في لوحات مراياه، وحتى ثقافته العامة بتحويل قصص عزيز نيسن والأدباء العالميين إلى لوحاتٍ "مسورنة" تحاول التقرب من واقع الناس، وإن فشلت في أحيانٍ كثيرة.

لطالما أصرّ العظمة، المنحدر من أكبر العائلات الدمشقية، على التمثيل بلهجاتٍ عدة لتظهر كلها في النهاية لهجةً واحدة شاذة لا تنتمي لأي منطقة سورية، فيكون بشخصيته ضمن اللوحة ينطق لغة تختلف عن أفراد اسرته يصر أن يغنيها لا أن يقولها بطريقةٍ مستفزة، (استنسخها عنه دريد لحام في مسلسل "خربة" فكانت شاذة ضمن مسلسل ينطق بلهجة محافظة السويداء). بينما جعل العظمة، مدفوعاً بإرثٍ دمشقي، جيلًا كاملًا من السوريين يتقبل الاحتلال العثماني في لوحاته بصيغة "عيل أكابر ووجهاء". 

العظمة بدأ مشروعه عام 1982، ليكون "تنفيسة" للسوريين بما يحمله من كوميديا سوداء تكاد تقترب من الواقع بشكلٍ خجول، والذي ربما استمد فكرته واسمه من كتاب إدواردو غاليانو "مرايا" (ما يشبه تاريخاً للعالم)، لكنه لم يستطع ألا يشبه نظام البعث، الذي استخدمه ليصدر فكرة ديمقراطيته الوهمية. 

اعتمد العظمة، كالبعث، لسنواتٍ عديدة أسلوب الـ"One man show" في عملٍ من بطولته الدائمة في جميع لوحاته، تمثيلًا وكتابةً وحتى اقتباساً من أعمالٍ أدبيةٍ أخرى. لطالما رافقت جملة "مما قرأ وسمع وشاهد"، عبارة "تأليف: ياسر العظمة"، في حلقات مرايا على مدار السنين، مع اعتماده على بعض الكتاب الجدد في السنوات الأخيرة، ربما لأن الممثل الذي قرر الانعزال عن الإعلام منذ سنوات، لم يعد يسمع ويشاهد الكثير، أو ليتمكن من المنافسة بعد "مسيرة التطوير والتحديث" التي طالت الدراما أيضاً مع أفول عهد الأب ووصول الابن. 

لم تصل مسيرة التطوير إليه كثيراً، حافظ على دور البطل الأوحد وسط جيش من الكومبارس، ألبس ممثلين كباراً أدواراً محددة، فمن أعماله انطبعت صورة ضابط الأمن بالممثل بشار إسماعيل، فيما لم يستطع عصام عبه جي وحسن الدكاك طوال حياتهما إلا البقاء في دور الرجل الثاني أمام عظمة الممثل الأول ياسر العظمة، رغم تقدم أدائهما عنه في الكثير من الأحيان. 
حمّل العظمة مراياه كل شيء، حتى الإعلانات، ولم يخجل من إقحام جملة "خدي كاسة عصير عمار" في إحدى لوحاته، أو من أن تبدأ اللقطة من كيس البن في المطبخ. 

لكن العظمة استطاع الحفاظ على جمهوره رغم كل هذه السنوات، ورغم تفوق مسلسلات اعتمدت أسلوبه وسرقت ممثليه، مثل "بقعة ضوء" ونسخها الكثيرة، تمكن من ذلك عبر شيءٍ واحد: "الغموض". 

امتنع ياسر العظمة عن الإعلام، لم يجر مقابلات خلال سنواته الكثيرة إلا في ما ندر. لم يصرح، لم يصفق على العلن لأحد، لم يمدح شخصية بعينها ويبدي ولاءه بشكلٍ علني، لكنه لم يظهر العكس، لم يعلن رفضه سياسات أحد، إذ عرف العظمة أن خلطة النجاح السرية تكمن في إثارة الخيال عنك، أثِر المشاهد بأسئلةٍ عنك مثل من أنت؟ ماذا تفعل؟ ما رأيك بهذه القضية؟ 
إجعل الناس يكونون شخصيةً لك قد تقارب حقيقتك أو لا، لا يهم، المهم ان تبقى رجل الحكايات بخيالهم، الذي يرفض الظلم ويؤمن بالحق، رغم أن جهات انتاجه وجرعة النقد الخفيفة في أعماله يجب أن تؤكد عكس ذلك. 

خلال الثورة نسج الناس حكاياتٍ عن العظمة لا ندري حجم مصداقيتها. أراد الناس إلباسه لباس المعارض، فحكي عن سماحه لمقاتلي الجيش الحر بالتآوي في فيلته ببلودان، وقيل عن هجرته لرفضه العمل في بيئةٍ يسيطر عليها النظام القمعي، لكن العظمة لم يظهر لمرةٍ واحدة كي ينفي أو يؤكد ذلك، خرج مع بدايةِ الثورة بمرايا جديدة في "الجزائر" لم ترق الى مستوى الحدث، مع ذلك وجد الناس له تبريرات تتعلق بمكان التصوير وصعوبة الإنتاج، مع أن مسلسل مثل "قلم حمرة" صوّر في بيروت وحاكى الواقع بكل تفاصيله. 

داعب العظمة، عن قصدٍ أو دونه، أحلام الناس، بتجسيد شخصيةٍ مشهورة كبيرة تؤيد الثورة، اختاره البعض دون سؤاله حتى، كرمزٍ للكوميدي السوري بوجه النظام القاتل، لكن في الحقيقة اختاروه كمعادلٍ معارض أو بالأدق معادلٍ "سنّي" لدريد لحام نجم الكوميديا السورية منذ الأزل الذي جاهر بتأييده للنظام ولسوء حظه لم تتوافق طائفته مع رغبات بعض الثوريين. وساعد على ذلك، خلاف العظمة ولحام القديم الذي يُحكى عنه كثيراً في الوسط الفني، والذي أدى الى ابتعاد العظمة عن العمل مع لحام بتغذية ذلك. 

مثّل العظمة الخير ولحام الشر بأذهان البعض. لحام مؤيد، فالآخر بالتأكيد معارض رغم أنه لم يصرح بشكلٍ مباشر. يقول البعض ان لحام ضمر الشر للعظمة وأبعده عن شلته، فأصبح العظمة مظلوماً، وبالتالي الأفضل بضمير البعض المتعطش للحق والعدالة، رغم أن العظمة كرر ما فعله لحام فعكست مراياه انعكاساً لما حدث معه. 

ساعد في هذا كله حالة النوستالوجيا الجمعية التي بدأ السوريون يعيشونها في بلاد الشتات، معيدين لمراتٍ عديدة ما يحمله يوتيوب من مسلسلاتٍ ولوحاتٍ قديمة للعظمة ولغيره، محاولين البحث عن تفاصيل حياتهم الضائعة، لا بحثاً عن قيمةٍ فنية لا مثيل لها في هذه الأعمال. 

بعد رفض جهات الإنتاج الخضوع لشروط العظمة داخل سوريا، والتي ذهب إليها بقدميه رغم معرفته بمواقفها الداعمة للنظام، صبّ العظمة في مشروعه الجديد جام غضبه عليها، هاجمها بكل طريقة، وبأرخص وسيلة تكلفةً: السوشيال ميديا. 

لم تكن عودة العظمة عودة الأم الحزينة على أولادها كما يراها البعض، عاد حزيناً على نفسه وهذا من حقه، ليس مطالباً بموقف، مهما كان البعض يعتقد ذلك، لكن المزعج بعد عشر سنواتٍ من الثورة، لا يزال بعض السوريين يبحثون عن آلهة جديدة بعد اعتقادهم أنهم حطموا آلهتهم القديمة بالثورة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024