بصمات النيوليبرالية في طرد ناجي عباس من "دويتشه فيلله"

أحمد ندا

الخميس 2016/08/25
انتهت أزمة الصحافي (السابق) في مؤسسة "دويتشه فيلله" الألمانية، بطرده، بعد منشورات له تحرض على العنف ضد الناشطة ماهينور المصري، والتي سببت غضباً كبيراً على المستويين السياسي والإعلامي في مصر، وكانت على رأس اهتمامات المجال العام خلال الأسبوع الماضي. فصلت المؤسسة الإعلامية الصحافي، بل وحولته إلى المحاكمة بناء على هذه المنشورات، ما اعتبره البعض انتصاراً رمزياً على أمثال ناجي عباس وتحريضاتهم المستمرة على العنف ضد البقية الباقية من "وجوه الثورة". وهدأت المعركة الكلامية أخيراً بعد ردة الفعل السريعة من "دويتشه فيلله".
غير أن ما حدث، كان لا بدّ أن يؤدي إلى طرح عدة أسئلة، أهمها: هل ما كتبه ناجي عباس عن إلقاء "ماء النار" على ماهينور المصري تحريض على العنف بالفعل، أم كان مجرد منشور فايسبوكي "ساخر" وإن بكلمات عنيفة؟ ماهينور المصري نفسها لم تر في ما كتبه عباس تحريضاً مباشراً على العنف.. كما استقبله قطاع كبير من الصحافيين بتشكيك بأن ترتقي التصريحات "إلى خطاب كراهية أو تحريض مباشر على القتل".. وذهب البعض الى ان ما كتبه "مكتوب في صفحة شخصية مالهاش دعوة بشغله". وهو ما فتح نقاشا كبيرا عن الحدود الفاصلة بين الكلام الذي يؤدي إلى العنف والتعبير عن الرأي، خصوصاً وأن الفارق بينهما لا يكاد يظهر في عدد كبير من الحالات منها حالة ناجي عباس.

في القانون المصري يمكن تعريف التحريض بأنه خلق التصميم على ارتكاب جريمة لدى شخص آخر بنيّة دفعه إلى تنفيذها، أو مجرد محاولة خلق التصميم عنده. ويتحقق بشروط عديدة، بعضها مادي، كأن يتواصل المحرض بمرتكب الجريمة مباشرة. وآخر معنوي بأن يوجه المحرض كلاماً إلى جماعة من الناس يعرف تأثير كلماته عليهم.. لكن المشرع القانوني وجد أنه من المستحيل معاقبة المحرض تحريضاً غير مباشرة؛ لأن الإتهام سوف يفشل في إيجاد الرابطة السببية المباشرة بين المتهم بالتحريض، ومرتكب الجريمة، والشرط الأهم الذي وضعه المشرع القانوني لإثبات جريمة التحريض هو "الجدية" في الدعوى.

لا تتوافر هذه الشروط في المنشورات التي كتبها ناجي عباس، على قباحتها، وربما يعزو البعض ما قامت به المؤسسة الألمانية مكسباً رمزياً للثورة بالانتصار لواحدة من وجوها الناصعة. لكن ماذا إذا ما تم مد الخط على استقامته لتورط الكثير ممن يناصرون هذه الثورة في نفي التهمة ضد الداخلية والفلول والجيش في منشورات في "فايسبوك" و"تويتر" في لحظات انفلات كلامية يفهم سياقها الجميع. وعليه فربما كان ما حدث فيه شيء من "المبالغة" التي لا داعي لها.

***

خارج السجال الأخلاقي، التساؤل الأقل خفوتاً في قضية ناجي عباس والأكثر أهمية، يكمن في حدود علاقة الصحافي بمؤسسته الإعلامية، أين تبدأ وأين تنتهي؟ بعبارة أخرى، متى تتدخل المؤسسة الإعلامية لتقوّم "الرأي الشخصي" للصحافي خارج حدود مؤسسته؟ هل يمكن اعتباره وجهاً معبراً عنها حتى في حالة عدم تمثيله لها، وهل كل ما يكتبه في مواقع التواصل الاجتماعي في حساباته الشخصية يمت للمؤسسة بصلة؟

في مارس/آذار من العام الجاري، فصلت "بي بي سي"، المؤسسة العريقة، واحداً من أشهر مذيعيها، مقدم برنامج "توب غير" جيمي كلاركسون، بعد ثبوت عنصريته تجاه الملونين من الأفارقة الذين أطلق عليهم صفة "زنوج"، إضافة إلى اليابانيين والمسكيكيين. لم تعتبر المؤسسة أن ما قاله كلاركسون من قبيل "المزاح"، واعتبرته أمراً مهيناً له وللمؤسسة مما أدى إلى فصله بعد أكثر من 18 عاماً تقديماً للبرنامج، وهو واحد من أكثرها شعبية على شاشاتها.

لكن، لعل قضية كلاسكون ليست محل خلاف كبير، خصوصاً أن العنصرية لم تعد مسألة خلاف شخصي.

قضية أخرى في العام 2010، حين غردت أوكتافيا نصر، مراسلة "سي إن إن" تنعي محمد حسين فضل الله على حسابها الشخصي، ما دفع المؤسسة إلى طرد نصر من عملها الذي ظلت تشغله لعقدين من الزمن، وكانت واحدة من وجوه المؤسسة الأبرز والأكثر مهنية واحترافا.

ومن المعروف عن مؤسسات "نيويورك تايمز" و"بي بي سي" أنها تشترط على الملتحقين حديثاً إليها، الحذر في ما يكتبونه في صفحاتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارهم يمثلون في كل ما يكتبون صوت المؤسسة وأنهم معبّرون عنها.

المفارقة هنا أن الكيانات التي تتبنى مقولات الحرية، تطبق هذه الشروط الصارمة والعقوبات المغلظة على إعلامييها، وتقييد التعبير عن الرأي الشخصي.

لا يمكن فهم هذه المفارقة خارج إطارها الرأسمالي النيوليبرالي، حيث هذه المؤسسات تقدم "سلعة" هي صناعة الأخبار، وعليه فكلما علا نجم أحد موظفيها، مراسلاً كان أو مذيعاً، أو حتى أثار الاهتمام بطريقة ما، فلا بد أن تحافظ على مصالحها و"زبائنها" ومفضلاتهم في سلعتهم الكلامية. وعليه، تفرض شروطاً ملزمة على الصحافي للترويج للحرية بما هي سلعة يمكن بيعها. تؤطر الحرية بغرض تسليعها.

على المستوى الأخلاقي، لا يحق للمؤسسة أن تلزم موظفيها بما يجب وما لا يجب قوله. لكن ظروف الواقع أمر آخر. وفكرة الحرية النيوليبرالية إذا اصطدمت بالمصلحة المؤسسة، فالضحية هي الحرية لا المصلحة بكل تأكيد. من هنا، يرى البعض أن فصل ناجي عباس من مؤسسته أمر فادح. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024