تضليل إعلامي إسرائيلي: انقلاب المعايير على جانبي الحدود

نذير رضا

الإثنين 2019/09/02
مشهدان تضاربا، أمس الأحد، على ضفتي الحدود في الجنوب: وسيلة إعلام اسرائيلية تستصرح مستوطناً، يبدو يمينياً، يقول إن المستوطنين على الحدود اللبنانية لن يغادروا منازلهم، وسيبقون فيها. 
في المقابل، تظهر مقاطع فيديو اللبنانيين في الجنوب عالقين في زحمة سير خانقة، أثناء مغادرتهم القرى الحدودية، بعد الإعلان عن رد "حزب الله" على القوات الاسرائيلية. تحولت الصور ومقاطع الفيديو الى مادة للتندر. 

والواقع إن تضخيم الصورتين، على جانبي الحدود، في مواقع التواصل الاجتماعي، يستدعي التمعّن. ففي الأول، ثمة دعاية اسرائيلية تستلهم الصورة المكررة في جنوب لبنان، منذ حادثة شجرة العديسة في العام 2010، وتردّ عليها. تحاول اسرائيل عبر وسائل اعلامها، تضليل الرأي العام بالقول إن مستوطينها غير آبهين بالتطورات، ومطمئنون، وهي دعاية تجافي الحقيقة، إذ تدحضها مقاطع فيديو لجنودها يختبئون، ولمستوطنيها يلتزمون بيوتهم، وجيشها يعتكف عن ارسال المسيّرات خلال الحادثة وبعدها، واكتفى اليوم برفع منطاد تجسّسي على الجانب الحدودي قبالة ميس الجبل. 

أما في الثاني، فإن مغادرة القرى الحدودية لا يمكن أن تُعتبر إدانة لسكان الجنوب المدنيين الذين من الطبيعي أن يتهيّبوا أي حرب، وليسوا مجتمعاً معسكراً. من الطبيعي جداً أن يعودوا الى منازلهم في بيروت، في إجراء احترازي لتطور الوضع، بينما لم ينزح سكان القرى الحدودية من المقيمين هناك. وبالتالي، فإن التركيز على الفرار بوصفه انهزاماً، يجافي الحقيقة، ومن المبكر الاستنتاج به، طالما أن الحرب لم تقع، ولن تقع، وهي وقائع تدركها اسرائيل التي فتحت منابرها الاعلامية للمستوطنين، لبث دعاية مضادة لفيديوهات الرحيل من الجنوب خلال الساعات الأولى للضربة. 

ومع التسليم بالجانب الدعائي، وطرق استغلاله، ثمة ضرورة لإجراء مراجعة في الأزمات وإدارتها إعلامياً. وهو فعلٌ ضروري، تقوم به إسرائيل عادة، وتعلن عنه في أحيان كثيرة، وغالباً ما لا يقوم به لبنان، أو على الأقل لا يُعلن عنه، لاستخلاص الدروس من أزمات مشابهة. 

في الجانب الإعلامي اللبناني، تذهب قنوات تلفزيونية إلى الهزل (لسنا في وارد تسمية مراسلين تنقصهم الجدية)، وهو ما ظهر في التغطية التي تلت انحسار الضربة، بينما كانت غارقة في الشائعات خلال ذروة التوتّر. لا مصدر موثوقاً، ولا معلومات أكيدة. وحدها المشاهَدات كانت الإفادة المعلوماتية الميدانية. 

والحال، إن النقص في المعلومات، مردّه التّيه السياسي، وقد ساهم النقص في الإفادة الإعلامية بتسلل الشائعات، والسماح بالبناء على مَشاهد موجودة في مواقع التواصل الاجتماعي لضرب مفاعيل الضربة – الرد، وبتشكيل رأي عام قلِق من التدعيات، وسط غياب لأي اشارة طمأنة تُبنى على تحليلات واقعية، كان يجب أن تستند الى وقائع سياسية دولية واقليمية ومحلية تسقط احتمال تدحرج التوترات الى حروب واسعة، تمتد منذ العام 2006. 

غير أن المعضلة الاكبر، التي تستدعي المراجعة، هي الخلفية التي لا تقدمها وسائل الاعلام، عبر محللين موزونين يمكن أن تستضيفهم، لتضيء على التوازنات الدولية والاقليمية وقواعد الاشتباك التي تحدث عنها "حزب الله" بواقعية كبيرة. على العكس، كان المحللون يبالغون ويتوعدون، وهو ما انعكس قلقاً في المنطقة الحدودية، دفع المدنيين إلى مغادرة المنطقة فور الإعلان عن الردّ، في مقابل رقابة اسرائيلية على وسائل إعلامها، وضبط المخاوف الأمنية عبر شعاع الـ4 كيلومترات الذي طلبت من المستوطنين التزام منازلهم فيه وتجهيز الملاجئ. 

ثمة من يقول اليوم إن القلق اللبناني، وهو ردّ فعل عفوي وطبيعي في صفوف المدنيين، مردّه التهويل الذي مارسه المحللون على مدى 8 ايام. ويذهب آخرون الى التوغل في خلفية الأحداث الأمنية والسياسية التي تزعم أن "حزب الله" ملتزم السقوف المنخفضة في الردود، بعد عشرات الضربات التي نفذتها اسرائيل في سوريا ضد أهداف يقول انها عائدة لإيرانيين أو محسوبين عليهم، أو لقوافل أسلحة تابعة للحزب. 

هذا السياق التراكمي من الأنباء والتطورات الأمنية، زعزع الثقة اللبنانية في الأمان الثابت منذ 2006، ومعادلات الردع التي أوجدتها المقاومة، فأضيفت الى التهويل التحليلي في الشاشات اللبنانية، فدفعت المدنيين غير المعسكرين في الجنوب الى مغادرته فور الإعلان عن ردّ. 

وعليه، فإن إسقاط عوامل الطمأنة إعلامياً، باستثناء القوة الردعية، لا يكفي في مواجهة الضخ الاسرائيلي المتواصل المقترن بأفعال في سوريا والعراق، بدأ مساره في 2014، وطاول "حزب الله" في 2015 مباشرة في استهداف قافلة القنيطرة التي ردّ عليها الحزب في مزارع شبعا آنذاك.

ما يحتاجه صمود اللبناني، تحليل واقعي يفيد بأن المعادلات الدولية تفرض الحفاظ على الاستقرار، والإضاءة على تصريحات الحزب وقادته بما يتخطى فتح الهواء للمتوهمين، وكان آخرهم اعلان رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة"، محمد رعد، السبت الماضي، أن الحزب لا يسعى الى الحرب بل إلى تثبيت قواعد الاشتباك. في حين تغيب المصادر السياسية اللبنانية المطمئنة الى أنه لا حرب مدمرة مع اسرائيل بتوجيهات دولية للطرفين. 

أداء اعلامي متداعٍ، من الطبيعي أن يقود الى التوتر والبناء على صور إخلاء القرى من زائريها الأسبوعيين. وغياب التوضيحات بشأنها، خلال التغطيات المباشرة، لن يسحب القلق الجنوبي المزعوم من التداول في مواقع التواصل، ولن تستره مسيرات ما بعد الضربة التي فُتح لها الهواء للقول "ما في شي بيخلينا نفلّ". 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024