جيش الأسد: وَطن يساوي حبة بطاطا

عدنان نعوف

الثلاثاء 2020/08/25
كان يُمكِن لمنشور الضابط في قوات النظام السوري، معن عيسى، أن يَمرَّ أمام عيون أجهزة المخابرات من دون اكتراث، كأي كلام انتقادي مشابه، لولا أنه استخدم عبارات تُعرّي كذبة الموت والشهادة "في سبيل الوطن"، كمُبرّرٍ للاستمرار بالقتال دِفاعاً عن بشار الأسد. 
وانتقدَ عيسى، المعروف بكونه "بطل معركة مطار كويرس" في منشور في فايسبوك، نوعية وكمية الطعام المخصّص لقوات النظام، متوجهاً بكلامه إلى المسؤولين عن ذلك، وتساءَل: "هل هذا هو الوطن الذي نحارب من أجله؟"، ليتم اعتقاله. 

ولم يَكتفِ هذا الضابط بعقد مقارنة مُحرجة للنظام، بين التضحيات التي يبذلها المقاتلون، وبين مكافأتهم بفتات الطعام، بل إنه تهكّمَ بأسلوب شديد السوداوية، وقال: "إذا كنتم تعتبروننا حيوانات، نُعلِمكم ان طعامنا هو العلف والتبن.. وان كنتم تعتبروننا حشرات فإننا نقتات على الفضلات"!.


والحال أن الانتقادات المُوجَّهة لطعام الجيش، والفساد المستشري فيه تُعتَبر روتينية وغير جديدة، ما يَشي بوجود هامش "تسامح مخابراتي" إذا لم تتجاوز المحظورات. 

لكنّ الأمر يختلف حينما يلامس الكلام جَذر المشكلة، ويفضح فكرة الموت العبثي لآلاف الجنود السوريين. خصوصاً عندما يَخرُج هكذا نقد، أو يتم تداوله في أوساط البيئات الموالية، حيث يفسح النظام المجال من وقت لآخر لظهور شخصيات ذات حيثية ومكانة، لتنفيس الرأي العام وإشاعة الإحساس بـ"الديموقراطية"، لكنه يعود لتنظيم حضور هذه الأصوات وضبطها حين يستشعر احتمال تأثيرها سلباً في بيئة اجتماعية يَراها خزّاناً بشريّاً رئيسيّاً لمعاركه، وقلعةً أخيرة تبقى أو تفنى معه.

وخلال سنوات الحرب السورية تعددت المبررات التي ربطت مجتمعات الموالين بـ"قيادَتهم"، وجَعلتهُم يستسيغون نسبيّاً إرسال أبنائهم إلى جبهات القتال. وبمرور الوقت تراجعت فكرة "الشعور الوطني" كدافع لحمل السلاح، وحَلَّ محلها الخوف من فزاعة "نموذج إدلب"، إلى جانب السبب المادي الأهمّ وهو التطوّع في الجيش لتأمين مصدر دخل ثابت.

ومع تبدُّد الأحلام بنهاية "الأزمة " و"الانتصار على الإرهاب"، واكتشاف الموالين حقيقة أن بؤسهم سيستمرّ، اتخذت الشكاوى طابع المقارنة مع أصحاب الامتيازات، والذين يمثلهم عسكرياً عناصر القوات الروسية والميليشات الإيرانية وسواها.

وفق هذا المنظور، راحت الشكوى من الطعام تتعدى ظَرفيّتها الآنيّة لتُصبح احتجاجاً مزدوجاً تجاه "الخدمة" نفسها، وتجاه حَبْس الجندي السوري في صورة "البطل المظلوم"، والتي كرّستها دعاية نظام الأسدين، وحوّلتها إلى أسطورة عاطفية تتغذى على تجاوُر الشعور بـ"القهر" وبـ"البطولة" بشكل حتمي.

وعليه، نستطيع أن نفهَم صُوَر مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد للجنود طعامهم على الجبهات، والحِرص على تمجيد البؤس الذي يعيشونه، وتسويقه كجزء طبيعي من حياتهم، وإعطائه بُعداً جمالياً، بما أن "قائد الوطن يَعيشُه معهم".

ويَجب القول هنا أنه لولا غطاء البؤس القدَري للعسكر بذريعة "المؤامرات الخارجية" و"فساد دواعش الداخل"، لما استطاعت منظومة الأسد أن تُدير قطاعاً منَ الأكثر تَموُّلاً في سوريا، ألا وهو الجيش، وذلك بما يخدم شبكة مصالحها، وتقوم على تحالف كبار ضباط ومُقاولي مناقصات توريد البضائع والمستلزمات العسكرية لأعداد هائلة من المجندين والمتطوعين.

وباتضاح وظيفة الجيش السوري تدريجياً، وانكشاف دَوره كقوّة لا تدافع ضدَّ عَدوّ، ولا تُحرّر أرضاً، وإنما تعمل كباقي القطاعات المُعطلة لمصلحة "شبكة الأسد، مخلوف، خير بك..الخ"، أصبحَ منطقياً أن يتردد سؤال الجدوى والمكاسب بشكل أكبر، في ظل تقلّص دائرة المنتفعين الأساسيين، واتساع رقعة المعتاشين على الفُتات، لتشمل ضباطاً.

وأمام ذلك، تزداد حاجة النظام لجهود إضافية كي لا يخسر حواضنه، ما ينذر بالمزيد من القمع الأمني لأي صوت نقدي من جهة، وبإطلاق يد قوات الأسد وميليشياته أكثر للنهب والتعفيش من جهة ثانية، وهو ما درجَ عليه النظام كحلّ تعويضي لجيشه "العقائدي" المثقل بالشعارات، حتى باتت سلوكيات الصعلكة والارتزاق المُشينة سِمَةً تميِّز قواته في أكثر من محطة تاريخية. 

ولعلّ هذه هي الترجمة الحقيقية لمصطلح المؤسسة العسكرية التي لطالما صنع منها النظام رمزاً ذو هيبة، وخطاً أحمر بنظر مؤيديه، في حين أنّ كلمة "مؤسسة" تعني له عملياً انخراط أي عنصر في لعبة الانتفاع الرخيص، مهما قلّ حجمه أو كبُر، بمجرد انتسابه للمنظومة، وإلا سيعاني الويلات من تغريده خارج السرب.

وبطريقة مشابهة، وبعيداً من القطع العسكرية، بدا أن عدوّ معن عيسى الأساسي ليس الأجهزة الأمنية فقط، وإنما الأصوات "المدنية" الموالية الأخرى التي ورغم اعترافها بتضحياته وبطولاته، فقد تبرأت منه، وألقت باللوم عليه، وتصدّت للمدافعين عنه، وأعطته دروساً في الوطنية، مؤكدةً أن "حبة البطاطا والبيضة وشوية البرغل هي عنوان الشرف"، وأن هذه المشكلات عابرة وجزئية ويجب أن يحلها الضباط في ما بينهم، لا أن تُنشر بأسلوب "مُعيب" يثبط العزائم، ويعرِض حقيقة معاملة الجنود كحيوانات!. 

وبناءً على ذلك، يمكن أن نفهم لماذا يكرر بشار الأسد في خطاباته مفاهيم المجتمع المتجانس، وأحقية "المواطنين الشرفاء" وحدهم (أياً كانت جنسياتهم) بالانتماء إلى سوريا، كانعكاس لاعتماده أولاً وأخيراً على الأبواق ليكونوا صمّام أمان يحمي نظامه مهما تدهورت أوضاع البلاد، ويضمن له مواصلة المزايدة على الفقراء الحالمين بقطعة لحم، بالقول بأنه " لم يتناول الطعام منذ أمس"، واكتفى بالقليل من "الملح والسكر".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024