في عشق التدخين وفي هجرانه

عمر قدور

الأربعاء 2021/01/13
"إلى أمجد ناصر.. كما لو أنه بيننا ويدخّن!"


في السابعة وسيجارتين

إنه القطران. هذا ما سيقوله لي الطبيب، وهو يشرح لي أثر التدخين على الرئتين. القطران، كغاز ثقيل، هو الذي يترسّب في رئتي كل مدخّن، ليتسبب في النهاية بأذية تنفسية مستدامة. أنت لست في هذه النقطة، لكن ربما تكون فيها بعد سنوات. أؤكد على قوله بأنني حقاً لا أعاني مشكلة في التنفس، وقد أجريت صورة لصدري على سبيل الاطمئنان فقط. لكنه يعود إلى نصيحته بترك التدخين مقتنعاً بأن ما لم يحدث حتى الآن سيحدث لاحقاً. لتهوين الفكرة عليّ، يقول أن بإمكاني التهرب من القطران بتدخين السيجارة الإلكترونية. أسأله: وهل هذه بلا ضرر؟ يجيب برصانة وجدية أحسده عليهما: هذه ضررها مختلف، هي تتسبب بالسرطان.

كان من المحتمل ألا يطلب طبيبي العام صورة للصدر على سبيل الاطمئنان ليس إلا، وألا أذهب إلى أخصائي الصدر الظريف الذي اقترح عليّ الانتقال إلى السيجارة الإلكترونية التي تتسبب بالسرطان فقط، والذي لفت انتباهي إلى القطران بعد سنوات طويلة من ربطي التدخين بالنيكوتين فحسب. كان وارداً جداً أن أستمر في التدخين هانئاً بلا تحسّب للعواقب. هل قلتُ "هانئاً"! أنتمي إلى جيل من المدخنين ينبغي أن يمتلك دفاعات حصينة جداً ضد معاداة التدخين والمدخنين، ضد تلك الآلة الرهيبة القاسية التي تعمل على تعذيب المدخن مع كل سيجارة يشعلها، مع كل تحذير يضطر إلى رؤيته على علبة السجائر وهو يخرج واحدة منها.

أحياناً يتجلى سوء الحظ في فارق التوقيت. أتخيل مثلاً لو أنني عشت في زمن إعلانات التبغ التي تملأ وسائل الإعلام والطرقات، لو أن خيّال مارلبورو يحرّضني على التدخين كلما تصفحت جريدة، لتنافسه من جريدة أخرى حسناء على الشاطئ تغري بالانتقال إلى نكهة كِنت. ربما، لو حدث هذا، لقضيت عمري مدخناً بهناءة، ووصلت براحة بال مطلقة إلى الانسداد الذي يتسبب به القطران، أو إلى السرطان التي تتسبب به على نحو خاص المواد المعطّرة.

بسبب فارق التوقيت نفسه، أنتمي إلى جيل من المدخنين لم يتذوق تلك السجائر المعطّرة، حينما كان لكل صنف عطره الذي يفوح في أرجاء المكان قبل إلغاء عادة نقع التبغ في العطور أثناء تصنيعه. أتوقع أنني شممت روائح مختلف الأصناف وأنا طفل صغير، بل صغير جداً، ربما حديث الولادة أيضاً. ذلك كان شأناً عادياً جداً، أن يُدخن الجميع بلا اكتراث بوجود غير المدخنين أو الأطفال منهم، وبلا اكتراث بتهوية البيت جيداً أثناء الشتاء.

لو لم تأتِ إعلانات التحذير مكانَ الإعلانات الزاهية المشجعة على التدخين، كنا كسبنا مادة إضافية نمتحن بها معارفنا المستجدة. مثلاً، كان في وسعنا التفكير بالعلاقة بين تلك الإعلانات ومسألة الجندر، وصولاً إلى التفكّر في الأبعاد السيكولوجية والسوسيولوجية للتدخين وإعلاناته. هذا الافتراض لا يقوم على فراغ، فماركة مارلبورو اعتمدت إعلانها الشهير، برجل الكاوبوي الذي يرمز إلى الفحولة، لدرء شبهة "التأنيث" بعدما أضافت الفلتر إلى سجائرها، ولم تكن بعدُ ماركة كِنت قد حملت عنها الشبهة عن عمد.

تكاثرُ عدد المدخّنات في مجتمعاتنا لا ينقض ارتباط التدخين بالذكور أولاً، وارتباطه بوعي أو بلا وعي بمفهوم الرجولة. لوقت طويل، كانت المدخنة استثناء، بينما كان غير المدخّن هو الاستثناء. بل لقد أعطيت السيجارة مكانة خاصة متعلقة بالرجولة، ويُسمح لها أن تخدش صورتها المزعومة، إذ من الدارج حتى أيامنا هذه مصادفة رجال يريدون لأنفسهم صورة القوي، وقد يخجلون من إبداء ضعفهم أمام مرض مميت، أو من إبداء ضعفهم أمام داء عضال كالحب، إلا أنهم يتبرعون بالتصريح عن ضعفهم أمام السيجارة، ولا يندر أن يكون هذا الضعف مدعاة للتباهي!

هذا التباهي لا يقتصر على مجتمعاتنا، ربما قلة منا لم تسمع تلك النكتة المستهلكة عن سهولة الإقلاع عن التدخين لأن صاحبها نجح في فعل ذلك آلاف المرات. بحسب غابرييل غارثيا ماركيز، لقد قال يوماً أنه يفضّل الموت على ترك التدخين. قبل سنوات، سمعت كلاماً مشابهاً أكثر ألمعية من مجهول؛ كنت رفقة مريض في مستشفى، وبينما وقفت أدخن سيجارة في مكان يُسمح به بالتدخين سمعت حواراً بين مريضين بالقلب يدخنان في جواري، أحدهما كان يقول: قال لي الدكتور: إذا بدك تعيش لازم تترك التدخين. معقباً بنبرة ساخرة: "ما أنا عايش لأدخن". إذا كانت هناك طبقات من المدخنين، أظن أن لهذا المجهول مكانة عزيزة بين المتصوفة والنسّاك. هناك مجهولة لها مكانة قد لا تقل شأناً؛ أعرف واحداً كان يواعد امرأة للمرة الأولى، فطلبتْ منه أن يلاقيها الساعة "السابعة وسيجارتين"! مع الأسف كانت تلك المواعدة الفريدة محكومة بالفشل لأن صاحبنا غير مدخن.

الاقتلاع من التدخين 
في وسع "نصّاب" محبب مثل ماركيز الزعم بأنه ترك أربع علب سجائر يومية بأن سحق سيجارته الأخيرة في المنفضة، في سهرة كان فيها رفقة طبيب أقلع عن التدخين، وأن يزعم أيضاً أنه لم يترك التدخين لسبب معين، ولم يشعر مطلقاً بأنه أصبح أحسن أو أسوأ حالاً، ولم يتعكر مزاجه ولم يزد وزنه، واستمر كل شيء كما لو لم يدخّن أبداً، أو كما لو أنه ما زال مستمراً في التدخين!

من جهتي، عدت من عند الطبيب ولدي في البيت ما يكفي للتدخين المعتاد خلال أسبوعين. لعل وجود هذه الكمية انتقام من مرات نادرة وجدت نفسي فيها بلا سجائر. بخلاف المعتاد، كانت الكمية كافية فقط خلال أسبوع، لأفكر على مداره في ترك التدخين. بعد مضي حوالى ثلاثة شهور سأنتبه إلى أن نهم الأيام الأخيرة جعل توقفي عن التدخين في ذكرى مغادرتي سوريا، توحي لي المصادفة باستخدام تعبير "الاقتلاع" من التدخين بدل الإقلاع عنه. لا بأس، قد ينقسم المتوقفون عن التدخين بين جماعة المقلعين عنه والمقتلعين منه، لماركيز أن يتمتع بمزايا الفئة الأولى، المزايا التي لا تتاح للمساكين أمثالي.

عندما استيقظت متأخراً متكاسلاً على شرب القهوة لأول مرة بلا تدخين، مرّ الأمر بسلاسة وسرعة، سرعة الانتهاء من كوب القهوة الأعزل، وعدم ترك نصفه لجولة سجائر لاحقة. لم أفكر في الذهاب لشراء علبة تبغ، لم توجعني أصابعي التي كانت تحمل السيجارة منذ إشعالها حتى إطفائها، لم أتحرك بعشوائية على نحو ما يفعل شخص مضطرب قلق. لكنني أيضاً، بالمعنى الحرفي المباشر، لم أكن أنا. كنت قد وضعت أمامي شتى الاحتمالات، باستثناء ما سيتحقق فعلاً.

وجدت ضالتي في القول أن جسدي فقد إيقاعه المعتاد، وأنني بتّ بجسد عشوائي بلا إيقاع. بتعبير مجازي، كأنما الاقتلاع من التدخين فيه تأنيث لجهة الإحساس بالجسد. الرجال، بما تربّوا عليه عموماً، لا تشغلهم أجسادهم بالمعنى الواسع والمستدام، ينشغلون فقط بنداءاتها الغريزية، أو باستغاثاتها المتعلقة بالمرض. مع الإحساس المستجد بجسدي، صرت أكثر تفهماً لحديث النساء عن تأثير الهرمونات على طباعهن وأمزجتهن، وحتى أكثر تسامحاً مع استغلالهن هذه "الموضة" كذريعة لتبرير جرائمهن الصغيرة أو الكبيرة في حق الرجال.

سرعان ما ستبدأ متاعب الحلْق والبلعوم جراء بدء الصدر بتنظيف نفسه. لشدتها، وبسبب التحذيرات المعروفة من سرطان البلعوم أو الحنجرة، يصبح ضرورياً مراجعة طبيب مختص لكي يُدخل منظاره من منخري وصولاً إلى البلعوم، ويستنكر صدور توجع خفيف مني. ليس من إصابة بالسرطان، وصار ممكناً الاهتمام بنزيف اللثة الكثيف مع كل استخدام لفرشاة الأسنان. ستقول لي الطبيبة: هذا النزيف بسبب التدخين. لكنه لم يحدث لي إلا عندما تركت التدخين! تجيب بأن التدخين الذي يؤذي اللثة هو نفسه يقبض الأوعية فيمنعها من النزيف. الحل؟ هل أعود إلى التدخين؟ تسألني: ولماذا تركته؟ لأن طبيباً نصحني بذلك. تضحك: وهل عليّ الاقتناع بأنك كنت في انتظار نصيحة من طبيب! أيامَ كنت مدخناً لم أنتبه إلى أنني لم أقصد عيادة طبيب أسنان على الإطلاق، بلا تعمد كنّ دائماً طبيبات، وأظن أنني فعلت الصواب لأن وجهاً من الجنس الآخر قد يلطّف من فظاعة تلك الآلات المصغَّرة عن نظيرتها المستخدمة في حفر الطرقات، ويلطّف أيضاً من تبشيرها لي بحساسية أسناني بعد التنظيف تجاه ما هو بارد أو ساخن، بما أنها ستفتقد التدخين الذي يغطيها بطبقة واقية.

إنها هنا.. إنها هنا!
فقدت صوتي الذي أعرفه، على أمل عودته بعد الانتهاء من مشاكل الحلق والبلعوم واللثة والقصبات التي تلفظ مخزونها من القطران ببخل وبطء. بين تفاصيل الجسد المنفلتة من الإيقاع، لم ألمس ذلك التحسن الموعود في حاستي الشم والتذوق، مع استثناء وحيد. نجلس صديقي وأنا في مقهى شبه فارغ على ضفة النهر، فلا أخطئ رائحتها، الأسوأ أن تلك الرائحة تتسرب إلى الحنجرة لتحوّلها إلى عش دبابير. يلاحظ صديقي التغير في وجهي وفي صوتي فأخبره بأن رائحة دخان في المكان هي السبب. ينفي وجود الرائحة، هو الذي لا يطيقها أصلاً لأنه لا يدخن، بينما أؤكد لنفسي: إنها هنا.

قبل سنوات، كنت ماشياً في الشارع ولمحتها تدخل محل ألبسة نسائية. كنا قد افترقنا ذلك الفراق الذي لشدته ومفاجأته يشبه اصطدام طائرتين في الجو، أو اصطداماً بين قطارين سريعين متعاكسي الاتجاه. بلا وعي دخلت محل الألبسة، ورحت أتفحص وجوه النساء، وغرف القياس الفارغة حينها، ثم الزوايا والرفوف. لم أرها، بخلاف أنفي ولساني وأصابعي الذين يصرون: إنها هنا.. إنها هنا. عدت إلى الشارع، أمشي وأنا مهموم بنهايتي الوشيكة كشخص يفقد عقله. لمن لم يجرّبه؛ هو إحساس قاسٍ، يتخلله بعض من "مهانة" الحب، وبقية عقل ضئيلة تشفق على النفس وهي ترى مآلها الأخير.

إذاً، مشيت ذلك اليوم مضطرباً جداً، ولو "بدلاً من تجاوزها" اصطدمت بالمرأة التي لا ذنب لها سوى أنها كانت تمشي أمامي لجزمت بأنه الجنون. ربما كنت في اللحظة الفاصلة بين العقل والجنون، عندما لم أصدمها كقطار خارج عن السكة بل نظرت أمامي كشخص عاقل، ورأيتها. كانت هي. لم تكن في محل الألبسة، لكنها كانت موجودة في الشارع المكتظ نفسه. هكذا أكون "عاقلاً" بما يكفي لأستدير وأمضي مسرعاً في الاتجاه الآخر، بينما "في اللحظة الكثيفة ذاتها" أسترجع كيف سألتها يوماً عمّا إذا سنبقى أصدقاء فيما لو افترقنا؟ أجابت: ولمَ نبقى أصدقاء؟ هل ينقصني أو ينقصك أصدقاء مثلاً؟! كان سؤالي غبياً بما يكفي لتستأنف قبل أن أجد تبريراً مناسباً: اسمعْ، عندما نفترق كعاشقين لا أريد رؤيتك أبداً.

وأنا رفقة صديقي في المقهى على ضفة النهر، سألمح اليد البعيدة لزبون وقد ارتفعت بسيجارته وأطمئن إلى أنها حقاً هنا، وإلى أنني "بحسب ظني المعتاد" جالس بكامل قواي العقلية. كنت بعد أسبوعين من التوقف عن التدخين قد قابلت صديقة في مقهى رصيف مكتظ، حيث يدخّن أغلب الروّاد، ولم أشعر حينها بذلك الأثر الجارح لرائحة التبغ، بل قلت لنفسي لمِ لا أدخن لمرة واحدة من دون العودة إلى التدخين؟ وأخذت منها سيجارة وأشعلتها، فشعرت بنفور مفاجئ وأطفأتها فوراً. أظن أن في تلك التجربة استعجال يشبه سؤالي الفظيع عن إمكانية نشوء صداقة بين اثنين كانا للتو يتبادلان الغرام.

أدب مفتَقد لعصر ينقضي
أكتشف أن لا صورة لي وأنا أدخن. كنت سأحظى بعدد كبير من هذه الصور، لو انتميت إلى جيل أسبق من الكتّاب، عندما كان الواحد منهم يحرص على الظهور الدائم بغليونه أو سيجاره، أو سيجارته التي قد اجتهد ليختار مكانها المناسب بين منتصف الفم وإحدى زاويتيه. صور الكتّاب المدخنين توحي بحميمية العلاقة بين الكتابة والتدخين، بل يكاد الكاتب المدخّن أن يتوهم ويوهمنا بوجود هذا التلازم منذ اخترعت الأبجدية الأولى. ربما، في قرارة كل مدخن، هناك صوت يحذّره من العجز عن الكتابة إذا توقف عن التدخين.

في نصه "ذكريات مدخن سابق" يذهب أمجد ناصر إلى أقصى ما نتصوره عن العلاقة بين الاثنين: "السيجارة، من دون السيجارة، ذلك الضوء الساطع في ليل الكلمات، لا كتابة". كان أمجد ناصر يعارض ما كتبه ماركيز في نصه "ذكريات مدخّن متقاعد"، مستحضراً تلك العلاقة اليومية التفصيلية بالتدخين، ومن ثم صعوبة التوقف عن تلك السيجارة التي تتوسط كل ما يفعله المدخن، وكل ما لا يفعله. وجدت نفسي بسرعة منحازاً لما كتبه أمجد، فهو بدوره منحاز بنزاهة شديدة لنفسه وأحاسيسه، أما ماركيز فهو منحاز "بما لا يقل نزاهة ربما" إلى الكتابة وألعابها، وإلى رغبته في الإدهاش بصرف النظر عن صدقه في ما يكتب.

اكتشفت النصين وأنا في سياق كتابة هذا النص، عثرت عليهما بين ركام من الكتابات المخصصة لهداية المدخنين وركام أقل من الطرائف التي قيلت عن التدخين. يذكر أمجد ناصر أيضاً أنه، باستثناء نص ماركيز، لم يعثر على شيء ذي بال يخص تجارب المبدعين مع التوقف عن التدخين. أزيد عليه أنني لم أعثر على نصوص تمتدح التدخين، نصوص تقارب تلك العلاقة المتخيَّلة بين الكتابة والسيجارة. هناك فرص مضيَّعة للكتابة عن عشق التدخين، وفرص أقلّ عدداً ربما إلا أنها لا تقل ضراوة للكتابة عن هجرانه.

أعتقد أنه فات أوان استدراك ذلك، فنحن على مشارف انتهاء عصر التدخين. بل نكاد نكون على مشارف عصر محاكم تفتيش تتعلق بالمدخنين، وقد لا يتأخر اضطهادهم بما يذكّر بمطاردة الساحرات. لدينا جبهة جاهزة من خبراء الصحة العامة وخبراء الصحة الاجتماعية، مدعومين بأعتى أجهزة الضرائب، من أجل جعل حياة المدخنين جحيماً، ومن أجل سرقة أموالهم مع كل سيجارة. قريباً، بعد تقييد التدخين في مختلف الأماكن، قد تُلغى حسابات المدخنين على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يُستنطق الأولاد في المدارس لمعرفة ما إذا كان أحد الوالدين أو كلاهما مدخناً من أجل الطعن بأهليتهما كمربيين. مع هذا التحالف المرعب المضاد للتدخين، سيكون من المكابرة ادعاء امتلاك إرادة قوية للتوقف عنه. هي الهزيمة، هو الاستسلام، لقد فعلت ذلك قبل شهور صاغراً وبنجاح باهر.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024