تلبيسة ودرعا.. الثورة الثانية؟

نذير رضا

الخميس 2019/01/03
تجدد الخوف من الأمن في سوريا. انسحب الناشطون من الصفحات الالكترونية العامة، إلى المجموعات الخاصة. هناك، يعود "الرجل البخاخ" مرة أخرى ليرسم على جدران المدن التي خضعت للتسويات، عبارات قديمة شكلت في لحظة ما عماد الحراك السوري: "الشعب يريد إسقاط النظام"، و"يسقط الأسد" و"يسقط الخونة"...
الكثير من الشعارات، يصوّرها ناشطون ويلصقونها في المجموعات المغلقة. شعارات رُسمت حديثاً تحتل جدران مدن خضعت لتسويات، بدليل تواريخها، ورسمها أشخاصاً حقيقيين يتسترون من الأمن، ويلوذون بالضباب والعتمة، بهدف التعبير عن رأي منعتهم المصالحات من التعبير عنه. وتخرج تلك الصور من مدن مثل تلبيسة في حمص، ودرعا في جنوب البلاد، في تكرار لمهد الثورة الأول في درعا وحمص. 

لا تقول الشعارات الكثير. لا سياسة، ولا رأي في التقسيم الديموغرافي القائم، ولا خطط لإنقاذ البلاد من آثار حرب يقال إنها شارفت على الانتهاء. الشعارات تقول رأياً يتكرر، يتمثل في رفض النظام القائم، ويطالب رئيسه بالرحيل. وهي مطالب خرجت قبل ثماني سنوات، ولم تتح أي فرصة للتعبير عنها ديموقراطياً في انتخابات شفافة ونزيهة. وجرى التعويض عنها سرّاً، في منشورات ترسم على الجدران ولا تغير شيئاً في الواقع، وتستدرج تعليقات تأييد وترحيب في مواقع التواصل الاجتماعي. 

والواقع أن تجاوز صناديق الاقتراع، للتعبير عن الرأي في السرّ، رغم مخاطر الملاحقة القانونية، يكشف حقيقة أكثر أهمية. فالتسويات لم تنتج عن مصالحات، وهو واقع عرفه النظام، فاستغنى عن وزارة المصالحة في التعديل الحكومي الأخير، بعدما أثبت أنها كانت "لزوم ما لا يلزم". 

ما جرى كان مصالحة تحت التهديد، تمت مقاربتها الأولى بصيغة "امسحها بهالذقن". وبعد أشهُر، وجد المصالحون أنفسهم تحت النار والملاحقة الى الخدمة الإلزامية، والاعتقال، والتصفيات الداخلية. أما المتدينون، أولئك الذين ادعوا خروجهم على النظام لسبب ديني، فلا يجدون إمامهم في المسجد. وفي المقابل، لم تتح أي انتخابات لهم الوصول الى السلطة، ولو شكلياً. لا يشاركون في صناعة القرار، ولا يتعرفون اليه. وبينما كانت بعض أسباب الخروج عن النظام عائدة لأسباب اقتصادية ومعيشية، لا يجد هؤلاء الآن سبباً للصمود والهدوء. لا خطط للتمكين الاقتصادي، ولا قدرات على صناعة المستقبل، ولا دور للمشاركة في إعادة الاعمار...

التسويات التي حصلت، هي نفسها تمثل بذرة جديدة لثورة أخرى. تتشابه الظروف مع ما حصل في العراق في العام 2008. يومها، وجد جزء من العراقيين أنفسهم، بعد فترة، في الطرف المقصيّ عن المشهد. كانوا مراقِبين فقط، ومحرومين من الجزء الأكبر من حقوقهم. حكومة المالكي، وضعت لهم لبنة تمرد جديد، استغله "داعش" في العام 2014، فانطلق في دورة عنف جديدة، ووضع العراق والعالم في الدورة نفسها. 

وفي سوريا، يتكرر الأمر. لا يزرع النظام الآن بذرة ثورة مضادة، فحسب. بل يتيح المجال لتمرد تستغله التنظيمات المتطرفة للتأثير في الناس، ولمحاكاتهم طائفياً واقتصادياً. وإذا كانت بذور الاحتقان تظهر كعبارات تحظى بتأييد محدود في مواقع التواصل، فإن ظروف اتساعها أكبر بكثير من احتوائها في وقت لاحق. لن تبقى مناطق المصالحات هادئة، ما لم تطأها ظروف التمكين الاقتصادي والحريات، ولا يمكن أن تعبّر عن قسم كبير من السوريين من دون انتخابات نزيهة. 

حتى تحقيق ذلك، يُستدرج المعارضون الى ثورة أخرى، بالتأكيد يضعها النظام وممارساته، وستحظى بتأييد دولي لن تستوعبه التسويات وفق الطريقة التي قادها الروس. في مواقع التواصل، ثمة الكثير من البذور. لعل سوريا تتجه الى ثورة جديدة، ما زالت مطمورة تحت أغطية المصالحات.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024