حاتم علي بين عِلم الصورة المقارَنة.. والتغريبة السورية

علي سفر

الأربعاء 2020/12/30
ظل النقاش حول منجز المخرج الراحل حاتم علي، حاراً لفترة طويلة، وربما كان للثورات العربية دور كبير في جعله يذوي. قد يعود الأمر إلى أن المنجز الرئيسي لحاتم، اقترب كثيراً، ومن ناحية الخطاب في أهم أعماله، من أسئلة كبرى، لم يكن لدى المشاهد السوري أو حتى العربي، القدرة على نقاشها بعمومية، كأسئلة الهزيمة والتاريخ، والحاضر بما يحتويه من نكوصات وانكسارات للفرد. لكن رافعات جبارة كالثورات، كانت قادرة على إزاحة كل شيء -وليس فقط التجربة الفنية- إلى الخلف، ووضع المواطن مع تجربته الراهنة أمام الأسئلة ذاتها.

غير أن الفجيعة العامة التي أحدثها موت حاتم المفاجئ، صباح الثلاثاء، حملت للمتابعين المفارقة في أن الأسئلة التي بحث مواطنو بلدان الثورات، ونظراؤهم العرب عموماً، عن أجوبتها، ثم انكفأوا عنها، قفزت إلى الواجهة مجدداً فتماهت في الحديث عن الرجل وتجربته والقضايا التي حملتها أعماله.

وقد كان لافتاً توافق جميع من يقفون خلف المتاريس المتقابلة في الصراع السوري، على رثاء الرجل. فبينما رأى جمهور المعارضة أن الرجل وقف في صف الثورة بعدما ترك البلاد وفُصل من نقابة الفنانين، وجرى الهمس كثيراً عن مواقف له غير علنية تؤيدها... اكتفى جمهور مؤيدي النظام بملاحظة تجنبه "إشهار مواقف سياسية حادة"، بحسب تعبير صديقه الصحافي عدنان علي، وأيضاً عدم اشتغال حاتم مع أي مؤسسة أو هيئة معارضة في الخارج، ليعتبره مستحقاً للتعاطف والرثاء.

الأسباب الخاصة لكل طرف، في جعل الرجل أيقونة مناسبة لأحزانه، لم تمنع البعض القليل من البحث، في محاولة إيجاد جذر عام، يفسر ما يجري، ويشمل الكل، مروراً بتقييم لتجربة حاتم علي، حيث برزت أسئلة حول قيمتها الفنية وسط محيط "متواضع". الرأي المحمول على بساط الأسئلة، وعلى ما يحتوي من تضاد مع التيار السائد لحظياً، يقفز بقوة ليضع أمام الجمهور سؤال المعيارية الفنية الدرامية، بالتوازي مع التفكير في الأسباب الموجبة التي وضعت المخرج الراحل في موضع التقدير من قبل الجميع.

العودة للتفكير في أعمال حاتم، أمر مهم جداً، طالما أن هناك عتبة تفرق بين مرحلتين في حياة الجمهور، وليس في حياته هو. لقد سعى الرجل إلى تقديم أعمال محمولة على خطاب ثقيل، مسّت الجمهور في وقت ما، وضمن توافق مع الجهات المنتجة. لكن هذا الجمهور لم يعد كما كان، بعدما غمرته الثورات برياحها الساخنة. فهو يعتز بلحظات تأثره السابقة، ويطلب من صانعها أو صنّاعها، وهم كثر، أن يتبعوه في مشاعره وتحولاته، ليقدموا له ما يناسبه، ولهذا سيحاول تقييم الجميع من هذه الزاوية، فيمنح ذاك وسامه، ويرمي الصامتين عن آلامه بالاتهامات، فيسقط تجاربهم، وهو بالتأكيد لن يتقبل أولئك الذين انحازوا إلى الأنظمة ضده.

وفي حالة حاتم علي، ورغم أن السؤال عن موقفه من الثورة قد حضر بشكل فعلي على صفحات التواصل الاجتماعي، إلا أن الثقة في أعماله، التي غازلت الجمهور في وقت ما، وكذلك الثقة في الجحافل الثقافية والفنية التي نعته، غطتا على كل شيء آخر، بما في ذلك التقييم الفني للأعمال التي قدمها لأسباب تجارية، ولم تكن ذات قيمة مهمة، لا سيما منها عمله "أوركيديا" (2017).

أبطال ليسوا خَدَماً في معابة آلهة متعددة
لا نستطيع كمشاهدين عاديين تقدير المنجز البصري لحاتم علي، طالما أننا نتماهى معه كسارد بصري للنص الحكائي، والذي تقترحه أقلام كتّاب السيناريوهات التي عمل عليها، فنحن هنا نعيش متعة البحث عن النجاة لأبطال هذه الحكايات، الذين يعيشون مصائرهم بسلاسة ويسر، رغم أن حقيقة الحكاية تقول بأن هؤلاء هم أبطال تراجيديون، وليسوا خدماً في معابد منذورةٍ لآلهة متعددة.

سر الاسترسال في المصائر، قد يعود إلى عناصر تنبع من الحكاية بوصفها عملاً منجزاً في عمق التفكير والإرث العربي (الزير سالم)، وقد تنبع من إعادة رواية التاريخ الموصوف، في كتب التاريخ المدرسية (ثلاثية الأندلس)، لكن لكل حكاية نتوءاتها وحوافها القاسية، إذ ثمة دائماً زاوية ما أو مربع خطر في قراءة التاريخ، قد يفتح على رواته نوافذ لا يريدون فتحها (مشهد مقتل الزير سالم مثالاً)، ما يستدعي البحث عن حلول لا تخدش ذاكرة الحكاية، ولا تغفل الاجتهاد السردي حقه.

هنا تأتي الصورة التي يقدمها حاتم علي، لتعيد رصف التفاصيل في شكل سردٍ بصري يليق بالحكاية وبأبطالها، ويليق بالمشاهد الذي لن يقدر منجز المخرج هنا، ليس لأنه لم يلتقط براعته في تحريك كاميراته، بل لأنه غرق إلى أقصى درجة في الاسترسال غير الواعي الذي يتملّكه، وهو يتابع حكايةً جميلةً يحبها، ويريد أن يرى كيف تصور صنّاع العمل تفاصيلها.

أما المشاهد الراغب في مشاكسة ذاكرته، وتاريخ الدراما السورية كذاكرة بصرية، فلا بد سيدرك حجم المنجز البصري لحاتم، حين يقرر وبشكلٍ واعٍ، استعادة عشرات ومئات الساعات الدرامية، التي عالجت القضايا التاريخية والتراثية، أنجزت خلال الأعوام الأربعين الماضية، ليضعها أمام عدد من المسلسلات التي أخرجها حاتم ويجري المقارنة.

وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى ضرورة خلق فسحة ما، مدروسة ومقصودة، تقود المشاهد إلى إدراك معادلات المقارنة.

فكما أنجزت البحوث الأكاديمية علم الأدب المقارن، لا بد سيقودنا التعامل مع المنجز البصري للسينما وللدراما إلى علم الصورة المقارنة أيضاً!

ومن هذه الفسحة، نستطيع أن نحدد مشاكل الأعمال الدرامية التاريخية بشكل عام، وكما تم إنجازها سابقاً، بالقول إنها أولاً دراما أحادية الجانب، رغم كونها مبنية وفق بنائية الصراع الدرامي، فهي تذهب إلى تقديم خطابها بفجاجة، ولا تنحو إلى تسريبه ضمن حزمة المتعة التي يجب توافرها في العمل قبل أي شيء، كي يكون عملاً درامياً جماهيرياً! وهي دراما الصورة الكسولة ثانياً، حيث سيطر مثلث الكاميرات الذهبي (اللقطات؛ قريبة+قريبة+عامة)، وبتنويعاته المحدودة المختلفة، على مجمل عمل المخرجين، ما جعل عملهم الإبداعي أشبه بحامل للحوار الدرامي، من دون أن نلحظ تناغماً بين السيناريو وبين الإخراج، حتى أن الجمهور الذي لم يستسغ تكرار هذا المنحى في الأعمال التاريخية، لم يجد لها وصفاً أبلغ من كونها مجرد حصة مدرسية مملة.

لقد بدأ حاتم علي عمله في الدراما التاريخية، أو لنقل دراما الحكايات التاريخية، من زاوية مختلفة عمن سبقه، حيث أن عمله الأول "الزير سالم"، الذي كتبه الراحل ممدوح عدوان، كان عملاً إشكالياً، من زاوية كونه يعيد بناء السيرة الشعبية المعروفة لدى الناس، بطريقة مختلفة عما يعرفونه، وعبر شكلٍ خلق، في صلب السيرة، مساراتٍ وممراتٍ درامية مختلفة.

وأظن أن عمل حاتم علي على هذا النص، بدأ -كأي مخرج- من زاوية الإمساك بخطوط الشخصيات في العمل، وبما يمكنه من بناء صورة تتعاطى مع الحوار وسردية الحكاية. لكن المختلف في عمله هو سعيه لبناء المشهد بطريقة تفاعلية، لا بطريقة النقل التقليدي. فالكاميرا في مسلسل "الزير سالم" تتحرك من دون كلل أو ملل، وقد ترك لشخصياته مساحاتٍ مكنتهم من اللعب بشكل جيد على تفاصيلهم ومقترحاتهم، ولعل أبرز ملمس يمكننا الإشارة إليه في هذا المسلسل، هو قدرة المخرج على ضبط الإيقاع المشهدي، وضبطه بالتالي في عملية السرد البصري، مما ولد في النهاية عملاً درامياً، لا يمكن فصل عناصره عن بعضها البعض أو تفكيكها لدى المشاهد، الذي أحب هذا المنجز وتابعه بشكل كثيفٍ، قلما رأيناه في أعمال درامية تاريخية أخرى. ويحسب لحاتم أنه استغل الفضاء الحر المتخيل، لعوالم البيئة القبلية العربية، فمضى فيها، بسلاسة، مركزاً كل جهده على ممثليه.

ورغم أن عمل الكاتب، وليد سيف، نصياً، على الحقبة الأندلسية الغنية، لا يقل شأناً عن عمل "الزير سالم"، إلا أن ثلاثية الأندلس (صقر قريش – ربيع قرطبة – ملوك الطوائف)، وبما امتازت به من ضخامة إنتاجية، قدمت أسلوباً آخر لعمل المخرج على حكاياته. فهنا بدا العمل مشدوداً أكثر لتاريخيته، التي استدعت التصاقاً أكبر بالتفاصيل المكتسية بالزمن "الفردوسي"، وبدلاً من حرية الذهن المحرك للصورة، بتنا هنا نرى كيف أمكن للمخرج، أن يعزز التصور النصي حول الحقبة التاريخية. وهو ما استدعى قراءات متعددة لهذه الأسلوبية. فمن رأي يقول بأن أسلوب عمل حاتم هنا قد اتسم بالمدرسية، إلى رأي مضاد قال بأن رسوخ التجربة وقراءة التاريخ بشكل دقيق، جعلا التجربة أكثر نضوجاً وتماسكاً، وأحسب أن أصحاب هذا الرأي لم يجافوا الحقيقة في ما ذهبوا إليه، رغم أنهم يشيرون وبشكل ضمني إلى خلل ما أصاب التركيبة البصرية لعمل "الزير سالم".

وهنا، وبعيداً من الرأي الأول الذي أراه غير دقيق، طالما أننا نتحدث عن تجربة تنطلق في البحث الذهني لتجعل منه منطلقاً للشطح الإبداعي الذي يخلق صورته التلفزيونية الجديدة، لا بد من التوقف ملياً عند الخيارات التي يقدمها التصور السائد عن الدراما التلفزيونية، وهي تقليدية، ولا تتجاوز التفكير في كسر القاعدة، وإعادة كسرها إلى ما لا نهاية. وقد لاحظنا أن عمل حاتم علي قد خرج على هذه المعادلة، حين تبنى البحث عن المعادل البصري لجوهر الحكاية التاريخية، وأظن جوهر أي حكاية. ففي مساحة خاصة بالملحمة الشعبية، كان لدى المخرج خياره، في أن يجعل من صورته المبتكرة مرادفاً للنص، لكنه آثر المضي في تصور بصري خاص، أعطى لكل شيءٍ ولكل تفصيلٍ حقه، وحافظ على لمسته في النهاية، وفي "ثلاثية الأندلس"، كان لا بد للعمل الإخراجي من السعي إلى بناء صورة معادلة للتصور النصي والحكائي، وفي هذا نرى ميزة مهمة تعزز ما نقوله، عن ضرورة وجود لنوعية المخرج الذي يمارس الاشتغال الذهني على مادته البصرية، ويقدم من خلال عمله بحثاً بصرياً مختلفاً، في حين كان استسهال المهنة قد أودى بعشرات الأعمال الدرامية الجيدة نصياً إلى سلة محذوفات الذاكرة.

وهنا أيضاً لا يمكن تجاهل أن النظرة إلى فنية العمل التاريخي، ومعطيات الواقع، لهذا نرى كيف مزج تاريخية مسلسله اللاحق "عمر" (2012)، مع نبض واقعي جعل الشخصيات المقدسة تظهر أمام الكاميرا، مستغلاً الحامل الواقعي الذي يحرض على المقاربات المختلفة.

تغريبتان
وقد حاكى رثاء حاتم علي، في إطاره العام الذي يقترب من السياسي الراهن، واحداً من أهم أعماله هو "التغريبة الفلسطينية". فمقابل المأساة التي يحكي عنها هذا المسلسل، كانت المشاعر تنبض بمقاربة تغريبة السوريين الراهنة، فتعتبر المخرج الراحل ابناً لها. فهو نازح بالأصل من الجولان المحتل، وقد عاش كل مآسي البلاد وحروبها وهزائمها، وهجر سوريا بعد حرب النظام على الثائرين.

ولعل استدعاء "التغريبة الفلسطينية" في رثاء حاتم، ومقارنتها بالتغريبة السورية، يوجب عودة إلى منجزه فيها، غير أنه كان من الصعب على قراء الدراما، كفعل إبداعي مرتبط بالواقع، أن يدرجوا هذا المسلسل ضمن نسق الأعمال الدرامية التاريخية. إذ أن هذا المسلسل، الذي كتبه وليد سيف، بقي في تصور البعض عملاً راهناً ومعاصراً، بسبب موضوعه الحار والطازج والحاضر في حياتنا. ولعل الاجتهاد الذي بذل في صناعته، وخاصة من زاوية تجاوز النسق النمطي للأعمال التي أرّخت وعالجت القضية الفلسطينية، قد نقل هذا المسلسل من مفهوم الرواية (سيرة ملحمية بحسب مفهوم "التغريبة" المقارب لتغريبة بني هلال)، إلى مفهوم العمل الوثيقة. لقد شاهدنا في ملف القضية الفلسطينية، أعمالاً كثيرة تلجأ للوثيقة لتدمجها بالنسق الدرامي. لكننا في "التغريبة" نرى الدراما تصنع الوثيقة، لقد أدار حاتم ذاكرة حواسه كلها في صناعة المشهد، صنع بالكاميرا نصاً بصرياً مكتملاً يقف بالتقابل مع النصوص الأخرى الخاصة بالقضية الفلسطينية (روايةً وشعراً وقصةً وتشكيلاً)، وضمن هذا التصور تستحق "التغريبة" أن تكون منطلقاً أساسياً لرؤية الكيفية التي يمكن أن يُخاطَب الجمهور من خلالها، فهو لن يحتاج إلى الكتب كي يؤرخ ذاكرته، حين يراها على الشاشة أمامه مصاغةً بلغةٍ بصريةٍ بسيطةٍ لم تستعرض إمكاناتها وقدراتها الانتاجية.

لكن ثمة سؤالاً استدعاه الزميل إيلي عبدو في منشور له حول سوريا، مثل التفاصيل ضمن مرويات كبرى، بحسب تعبيره، حيث يهيمن الشق الإسلامي العربي الفلسطيني على الشق السوري في أعمال حاتم.

وهذا السؤال يستحق التوقف عنده، لسبب أساسي، هو ضرورة أن يتم تقييم الأعمال الدرامية وفق مستويات متعددة. أولها أنها أعمال فنية تجارية، تخضع لشروط السوق وعرضه وطلبه، ولا تبنى وفق نزوعات المخرج الأيديولوجية، وهو في حال كان صاحب رؤية، سيحاول أن يكسبها ما تحتاجه وفق تفكيره، وبما يغني خطابها، الذي يجب أن يقترب من خطابه، وإلا تحول هو إلى مجرد حِرَفي، يعمل بحسب الطلب. غير أن هذا لا يلغي أثراً كبيراً تحققه حرفية المخرج في صقل الخطاب بالتشارك مع كاتبه، وهذه الحرفية يمتد أثرها أبعد من حاجيات الفضائيات لأعمال تملأ بها ساعات بثها، فتخلق فضاءً عاماً، تصعد في دواخله نزعات الجمهور، فيرى أنها تمثله، وتحكي عنه.

وضمن هذا السياق، لا يمكن تجاهل أن الجهات التي موّلت إنتاج الأعمال السورية التي أخرجها حاتم، لم تكن طليعية، بل كانت مجرد منصات تجارية وسيطة، وهي ليست طليعية بما يكفي لأن تجعل من هذه الأعمال صورة للوجه البهي الذي يريده السوريون، لقد لامست بعض هواجسهم، لكنها بقيت أقل من طموحات جاءت الثورة لتشكل حاملاً لها.

فهل كان هناك أحد، أو لنقل جهة تريد جعل الدراما جزءاً من مشهد الثورة الراهنة؟! تبدو الإجابة بعيدة من التجارب التي حاولت فعل ذلك، وبعيدة من تجربة حاتم الذي كان مستغرقاً بمشاريع تناهبت جهده شرقاً وغرباً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024