الإعلام اللبناني المشدوه "بالانتصار".. ليس إعلاماً

روجيه عوطة

الثلاثاء 2017/08/22
في مجال البروباغندا، هناك منوالان دعائيان: الأول، يخبر متلقيه أن لا شيء يقع، والثاني، يخبره أن الكثير من الأشياء تقع. اليوم، يسير الاعلام اللبناني وفق المنوال الثاني خلال تغطيته الاخبارية لمعركة "فجر الجرود"، التي يخوضها الجيش اللبناني ضد تنظيم "داعش". 

إذ يبدو ذلك الاعلام أنه يطمح، وبكل قوته التقليدية والحديثة، لأن يسجل رحى الحرب. لكنه، ولأن الرحى تدور على بقع مرتفعة وبعيدة عن عدساته وأقلامه، يسرف في افتعال صورتها، وشق ما يتوفر له من كلام نحوها، حتى ينقلب إسرافه الى ما يشبه الضوضاء، التي لا تفيد سوى بظفر مسبق، أي بغلبة تحققت قبل تحققها. 

فالإعلام، حين يغطي "فجر الجرود"، يوازي بين الحديث الكثيف عن النصر، ومشاهد من دوران المعارك. وبفعل هذه الموازاة، تصير نتيجة الحرب أسرع من الحرب ذاتها. وبالتالي، يضحى التفرج عليها تفرجاً على إعادتها، التي تقترن بمعرفة  حصيلتها سلفاً: لقد انتصرنا، نعلم ذلك، لكننا، نتفرج على كيفية انتصارنا فقط!

ولا تظهر المغالاة، التي يتبعها الاعلام، محولاً تغطية المعركة الى اعادة لمجرياتها، بأغاني جوليا بطرس الوطنية على شاشاته، بل بإحاطته الحرب، ومقالبها، بوصف لا يوائمها، بل يطمس ما تنطوي عليه من شدة فعلية. 

تخبر إحدى  الصحف عن الصورة التي التقطت للرئيس ميشال عون في اثناء زيارته لجرحى الجيش. عنونت تعليقها بـ"الصورة/النموذج"، بحيث أنها "مؤثرة وعاطفية"، واضافت على هذا الوصف تقريظاً للأبوة والاحتضان. والغُلو، في هذا التعليق، يدعي عكسه. فمع أنه يتمدد على زيارة عون، ويجعلها "نموذجية"، أي مع أنه يضعها في إطار بروباغندي، غير أنه يشدد على "غياب التسويقي الدعائي عنها". فيقدم لها دعايةً، تقوم بالكليشيه طبعاً، وفي الوقت نفسه، يخبر أنها لا تطمح الى دعايةٍ ما، وهكذا، من الممكن القول أنه يقحمها في ما لا شأن لها به، يقحمها في ما يحسبه بغيتها، ويتنكر لفعله. 

وفي المطاف عينه، لا يتوقف ذلك الاعلام عن إدراج أي ملفوظ أمامه في سياق تغطيته ومغالاتها، وعلى اعتقاده، أنه هو الذي ينتج هذا الملفوظ أو ذاك. فلما تزور إحدى القنوات منطقة رأس بعلبك لتقف على "الجو الأهلي" فيها، تجري مراسلتها مقابلات مع الناس، وفي أثناء حديثهم، تهز برأسها كأنها تخبرهم أنها تقبل بكلامهم. يتحدث هؤلاء أمام الكاميرا بحماسة، وبطريقة صادقة، لكن، حركة المراسلة، التي ترغب في سماع المديح، تجعل من حديثهم درساً يلقونه على مسمعها، كما لو أنها لقنتهم اياه من قبل.

ففي ازاء ملفوظهم، الذي ينطقون به على نحو عفوي، تظن القناة، ممثلةً بالمراسلة، أنها هي التي مدتهم به، والدليل على ذلك بالنسبة إليها أنه مناسب لغلوها. 

على أن الفارق بين حديث الاناس وحديث القناة، أن الاول، ولو بدا مبالغاً فيه، فهو على اتصال مع الحرب من جهة دورانها في رجائه. أما، حديثها فهو ليس سوى زعم لذلك الاتصال، ومحاولة تسجيله على أساس أنها هي التي تصنعه. 

في كل الأحوال، حركة المراسلة على علاقة بتعاطي الإعلام اللبناني مع أهل القرى، أو الأطراف، بحيث أنه إما يحولهم الى مضحكة، أو الى تلاميذ في صفه، معتبراً أن كل ما ينطقون به هو الذي لقنهم اياه، وما عليهم سوى أن يلقوه كي يظهروا على هوائه. حركة المراسلة تفيد بأن القناة تبالغ، ولما سمعت ملفوظاً من حديث أحد السكان،  وقعت على ما يناسبها، ولكي لا تترك مجالاً له ليظن أنه هو الذي ينتج كلامه، زعمت القبول به، لتخبره أن ما ينتجه هو من انتاجها: بالغ، بالغ أكثر، فهذا ما اريد، وهذا ما يؤكد أنك تلقي ما لقنتك اياه.

ومن علامات المبالغة ايضاً، أن ذلك الاعلام، وحين يستند الى منشورات موقع الجيش اللبناني، يبتلعها، ويفرط في جعلها دعائية، فينزع إخبارها، ويتعامل معها كأنها عبارة عن إعلانات تدور حول النصر الموثوق، من دون أن يكون موثقاً. فيقدم تلك المنشورات بطريقةٍ، تظهرها على غير محتواها، أي بتقديم نتيجتها عليها، حتى أنه، بذلك، يثير استفهاماً حول غياب الطرف الآخر من الحرب.

أين الذين ينتصر الجيش عليهم، لماذا تخلو المشاهد منهم؟ لا يجيب الاعلام، لا يسد نقصاً في تغطيته، بل أنه يتجنب ذلك من خلال غلوه، فما دام يستمد تغطيته من هذا المصدر أو ذاك، يكتفي بتحويل ما يستمده الى ما يلائمه، ولكي لا يفعل أكثر، يلف الوقائع بدعاية "هناك الكثير من الأشياء تقع"، ولا يعرضها، بل يعرض خلاصتها قبل تحققها، كأن الانتصار، بحسبه، قد تم قبل بدء الحرب.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024