"ميتافيرس": تراجع أحلامنا بـ"حياة ثانية".. والتخلي عن وجوهنا

غسان رزق

الإثنين 2021/11/15
يبدو عنوان المقال وكأنه يفتقد إلى كلمات كثيرة "يهفو" إلى وجودها. ربما تشمل الكلمات الغائبة مصطلح "كامبريدج آناليتكا"، تلك الفضيحة التي أثبتت فشل "فايسبوك" في حماية بيانات الجمهور، وكذبه على الناس عبر عدم إعلانه عن ذلك بنفسه، إضافة إلى بيعه المباشر لبيانات المستخدمين.


قدمت الفضيحة نموذجاً عن تحوّل العالم الافتراضي كوناً يأسر الجمهور في رقابة رقمية تستمر على مدار الساعة، تساندها بالطبع "رقابة" الهواتف الذكية، خصوصاً أن "فايسبوك" تمتلك تطبيق "واتس آب" الذي لا تكف العيون عن التحديق فيه، فيما ترسل بياناته ومعلوماته كالسيول إلى الشركات ومنها إلى أجهزة الاستخبارات و"الهاكرز" والشركات الكبرى وغيرها.

وبينت الفضيحة أيضاً، أن الفضاء الافتراضي يشبه كثيراً سجن الـ"بان أوبتيكون"، فضاء مكشوف على مدار الساعة على أعين رقابة الهيمنات الكبرى هدفه السيطرة على عقول البشر والاستيلاء عليها، الذي تخيله الفيلسوف الانجليزي جيرمي بانثام في القرن الثامن عشر واستعاده مفكرو ما بعد الحداثة في سبعينيات القرن الماضي، بموازاة استعادة صورته كثيراً بعدما أثبتت وثائق خبير المعلوماتية الأميركي المنشق إدوارد سنودن، التي لم تنفِ الولايات المتحدة صحتها لكنها أدانت سنودن بتسريبها، أن "وكالة الأمن القومي" تمارس تجسساً متصلاً على شعوب العالم، وضمنه الشعب الأميركي، على مدار الساعة.

ربما ينقص العنوان أيضاً كلمة "الفشل" التي تمتد من فشل العوالم الافتراضية في ردم الفجوة المعرفية، بل أضحت أكثر اتساعاً بعد الإنترنت، والفشل في جعل الأرض "قرية كونية" بعد أن صارت القومية الشعبوية والتطرف الديني ونظريات المؤامرة، ومن بينها نظرية استبدال شعوب الغرب بالمهاجرين، خبزاً يومياً في الغرب الديموقراطي، إضافة إلى انفلاتها في بقية العالم.

ماذا عن فشل أحلام السلام العالمي محمولاً على كابلات العالم الافتراضي الذي يقرّب شعوب الأرض كما لم يحصل في تاريخ البشرية، في ظل تحول الانترنت أداة مثالية لنشر خطاب الكراهية، وهو فشل لا مجال أمام "فايسبوك" لإنكاره بقدر ما هو فضيحة عالمية معلنة، إلى جانب التدخل الروسي الإلكتروني المفترض في انتخابات غربية كثيرة، بما ذلك في الولايات المتحدة نفسها حيث أشعل جمرات الانقسام الوطني في البلاد كما لم يحصل منذ حربها الأهلية، وفق ما بات شائعاً على ألسنة الأميركيين من "الطرفين" المتناحرين فيها.

ماذا أيضاً عن فشل وعد نشر المعارف في ضوء "وباء المعلومات المضللة"، حيث يعيش "فايسبوك" في فشل مُعلَن بشأن مقاومة تلك الظاهرة الخطيرة التي تسهم في تقهقر البشرية أمام وباء تملك بين أيديها سلاحاً علمياً ضده.

ذكريات الربيع العربي وآلامه

من الممكن أن تمتد القائمة السابقة لتشمل سلسلة لا تنتهي من التجارب الفاشلة مع الوعود الكبرى الزاهية التي تصدرها حفنة ضئيلة من شركات عملاقة تسيطر على الاتصالات والمعلوماتية والعالم الافتراضي في العالم، لكنها تجارب تثبت خطورة تخلي الجمهور عن التعمق في علاقته مع تلك الشركات وعوالمها.

في "فايسبوك" تحديداً، الذاكرة مؤلمة. لقد حُمِلَت وعود الربيع العربي على صفحات الموقع الأزرق الذي كاد أن يتحوّل اسماً حركياً لها، ثم تبين بعد اعترافات الموظفة السابقة في الشركة فرانسيس هوغن، أن "فايسبوك" لم يبذل جهداً حيال التشابكات والصراعات التي أحاطت بالربيع العربي ومجمل المنطقة العربية. وفي المقابل، لم يتردد "فايسبوك" لحظة في شمول تلك المنطقة، على غرار بقية العالم، بإجراءات الكسب المادي المباشر من الإعلانات الموجهة والسياسية والتجارة بمعلومات الجمهور، وصولاً إلى الفشل في حماية البيانات الشخصية والخصوصية على امتداد جمهوره في العالم.

ترتبط تلك الاستعادة الكئيبة مع مشروع "ميتافيرس" الجديد الذي أعلنت عنه الشركة، للمساهمة في تحريك أسئلة صغيرة من نوع أن تلك القائمة كلها مع المخاطر الرهيبة التي وردت فيها، جاءت فيما لم يضع الناس في العالم الافتراضي سوى نصوص وصور وأشرطة واتصالاتهم عبر هواتفهم. وبالتالي كيف سيكون حال الـ"بان أوبتيكون" والرقابة الشاملة إذا تحقق ما يدعو إليه مارك زوكربرغ، مؤسس "فايسبوك" ورئيسه، من وضع كامل شخصيتنا وأفكارنا وتصرفاتنا وسلوكنا وعلاقاتنا مع الآخرين، حتى الحميمة منها، في العالم الافتراضي؟ والأكثر من ذلك، أن نتولى بأنفسنا صوغه في شخصية افتراضية تكون بمثابة "آفاتار" يمثل كل منا، ما يعني أن نقدم رؤيتنا عن العالم والآخرين وأنفسنا ودواخلنا إلى فضاء "فايسبوك" المقبل؟

والحال أنه بمجرد التدوينات والصور والـ"لايكات" في "فايسبوك"، تمكنت شركة "كامبريدج آناليتكا" من سبر اتجاهات البشر ومعرفة ميولهم في مجالات لا حصر لها، من بينها السياسة، تمهيداً للتأثير فيهم. وكان ذلك عزفاً تمهيدياً للتدخل الإلكتروني الروسي في الانتخابات الأميركية، ثم تأجيج نيران الانقسام السياسي وطنياً في الولايات المتحدة؟ ومن منا لا يعرف أن أجهزة الاستخبارات الأميركية والعالمية ترى في "فايسبوك" ونظرائه في السوشيال ميديا، كنزاً لا ينضب؟ من لا يعرف أن إعطاء السفارات عناويننا في "فايسبوك" و"تويتر"، بات من الشروط البديهية في الحصول على التأشيرات؟

كيف سيكون الحال حينما سيقدم الناس إلى "ميتافيرس" أضعاف التدوينات والصور والـ"لايكات"، أي تفكيرهم كاملاً عن مناحي حياتهم بالمطلق. بالاختصار، يبدو "ميتافيرس" الصورة الأقرب إلى اختراق التقنيات الرقمية عقول البشر بإرادتهم للأسف في ظل غياب تفكير نقدي عنها،  أو ربما محاولة أولى في ذلك الاقتحام المحمل بالمخاطر.

خوذة العالم الذي نصنعه بخيالنا ونغرق فيه بعيوننا

في التفاصيل يفترض "ميتافيرس" أن البشر سيستخدمون تقنيات رقمية معززة ومكثفة كخوذة "أوكيلوس" (Oculus) التي تجعل العين لا ترى سوى العالم الافتراضي في "ميتافيرس"، فترى نفسها في قصر حتى لو عاشت في كوخ شَظِف. يضاف إلى ذلك تقنيات صنع الشخصيات الافتراضية الثلاثية الأبعاد، كي يصنع الناس بأنفسهم شخصية افتراضية "آفاتار" تنوب عن كل منهم في الحضور ضمن ذلك العالم الافتراضي الذي صنعوه بأنفسهم.

ويتولى "ميتافيرس" توليف تلك العوالم بحسب رغبات المشاركين، فتنسق "أفاتارات" وعوالم من يعملون في مكتب ما، كي يتفاعلوا افتراضياً، عبر شخصياتهم الافتراضية، مع بعضهم بعضاً، تحت العين المُراقبة للـ"ميتافيرس" التي تسجل وتحفظ أدق الحركات والأقوال والتصرفات بالاتصال مع كل شخصية. وبالمناسبة، سبق الإعلان عن "ميتافيرس" شراء "فايسبوك" شركة "أوكيلوس"، وكذلك فضيحة "أوراق فايسبوك" التي فجرتها فرانسيس هوغن، المديرة السابقة في الشركة. وهنالك من نظر إلى إعلان "ميتافيرس" عبر أرباح خوذة الواقع المعزز من جهة، ورغبة زوكربرغ في التغطية على فضيحة اخرى تخبط بها، بعد سلسلة فضائح مدوية في السنوات الأخيرة.


يذكر ذلك بتجربتين، إحداهما على الأقل قريبة من  "ميتافيرس"، والثانية تستعيد فشلاً مدويّاً في تقنيات "فايسبوك" تبيّن مدى خطورة الانكشاف أمام التقنيات المعلوماتية وميل شركاتها إلى السيطرة على الناس، ضمن مسعى الربح وكذلك التآزر مع مؤسسات الدول الكبرى، مع ما يحمله ذلك من مخاطر كبرى.

في العام 2007 انطلقت تجربة "الحياة الثانية" (Second Life) على يد الأميركي فيليب روزدال صاحب شركة "ليندن لاب"، متيحاً للجمهور صنع شخصيات افتراضية تنوب عنهم في موقع الشركة كي تتفاعل مع شخصيات اخرى للجمهور. وتضمن بيان إطلاق الموقع مصطلح "ميتافيرس" ومعناه "الكون الموازي"، الذي صاغه أولاً الروائي نيل ستيفنسون في رواية "تحطيم الثلج" العام 1992.. وبسرعة، تحوّل الموقع إلى عالم افتراضي موازي للعالم الفعلي. وسرى كالنار في الهشيم، إلى حدّ أن فوز باراك أوباما أُرجِعْ جزئياً إلى كثافة حضوره في "الحياة الثانية"، وصنعت وكالة "رويترز" و"بي بي سي" مكاتب افتراضي على "الحياة الثانية"، وظهرت دراسات سوسيولوجية حول الموقع تُبشّر بأنها سيحل بسرعة بديلاً من الحياة الفعلية! وأثبت ذلك سطحيته لأنه سرعان ما تقلصت تجربة "الحياة الثانية" إلى مجرد لعبة إلكترونية، ضمن طوابير من تلك الألعاب.

ربما تبدو تجربة "الحياة الثانية" شكلاً فائق الضجيج من العولمة التي بشرت بعالم واحد يصوغه قالب واحد ويصنع "قرية كونية" واحدة، ويتحرك في وقت واحد ويملك قيماً واحدة ويديره الـ"باكس أميركانا" (القانون الأميركي) الواحد الذي يعني تكرار نمط الديموقراطية الأميركية لدى شعوب العالم.  وبالطبع، تلاشت تلك العولمة التنميطية خصوصاً مع "ثورة" اليمين الأميركي عليها، وعلى صوت سقوطها عبر الضجيج الصاخب للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، وصولاً إلى متمردي اقتحام مبنى "الكابيتول"، مقر الكونغرس الأميركي وقلب ديموقراطيتها.

"الوجه العميق" وفشله المدوّي

تحمل تجربة "الحياة الثانية" أوجه شبه كثيرة مع "ميتافيرس"، ومع تقنية الواقع الافتراضي المعزّز "Enhanced Virtual Reality" في "ميتافيرس"، يصعب عدم تذكر تجربة "فايسبوك" في تقنيات صنع النصوص البصرية في العوالم الافتراضية المتفاعلة مع الواقع الفعلي، وتحديداً تجربة التعرف على الوجه.

وللمفارقة، تلى الإعلان عن "ميتافيرس" فشلاً مدوياً لأحد أضخم المشاريع التقنية التي نهض بها "فايسبوك"، وصب فيها الجهود والأموال صباً إلى حد التنازع عليها مباشرة مع الاستخبارات الأميركية، وهي تقنية التعرف على الوجوه التي عُرِفَت في آوان عزها بـ"تقنية الوجه العميق" (Deep Face Technology). وارتبطت بـ"فايسبوك" على الرغم من استنادها الى تقنية في التعرّف على الصور ابتكرتها شركة "آنتل" قبل ذلك بقرابة عشر سنوات، واستخدمتها في تطوير تقنية "التنقيب عن الأشرطة المرئية المسموعة" (Audio- Visual Mining).


ففي العام 2015، بدا صعباً أن يتعرف الكومبيوتر على وجه فرد ما في الأوضاع كافة، إذ تتدخل عوامل كثيرة لتصنع فوارق في مظهر الوجه ضمن صورة ما، خصوصاً "رباعيّة" العمر، ووضعية التصوير، وتفاوتات الإضاءة، وتعابير الوجه لحظة التقاط الصورة. وبصمت وسرية اشتغلت مجموعة من المتخصصين على صنع تقنية تستطيع تقليد قدرة عين الإنسان في ملاحظة هوية الوجه، حتى لو رأت جزءاً منه. وقاد جهود تلك التقنية في التعرف على الوجوه المهندس الصيني يانن لي تشون، وتمكنت من النجاح من ذلك، لأن تطوير تلك التقنية استند إلى الصور التي يضعها الجمهور بنفسه على صفحات "فايسبوك"، حيث ضخ الجمهور حينها 400 مليون صورة يومياً، أتت من قرابة 1.2 مليار مشترك في "فايسبوك"، علماً أن الموقع يمتلك قرابة ثلاثة أضعاف ذلك العدد اليوم.

لاحقاً، استمر تطوير التقنية عبر الاستناد أيضاً إلى الصور التي يضعها الجمهور بنفسه في "فايسبوك" الذي عمد إلى وضع إشارة "تاغ" على الوجوه التي يتعرف عليها، حتى لو ظهر جزء من وجه صاحبتها عرضياً في صورة ما. وثار نقاش هائل عن مدى انتهاك الخصوصية والحريات الشخصية من تلك التقنية الكاشفة. وبعدها سارت الأمور في خطين، أولهما استفادة الاستخبارات والمؤسسة العسكرية الأميركية منها، وصولاً إلى وضعها في أسلحة عسكرية مباشرة.

ورغم من أن التقنية لم تمنع الإصابات الخاطئة عبر الطائرات المسيرة التي سعت إلى استهداف شخصيات في "القاعدة" في أفغانستان واليمن وغيرها، إلا أنها مازالت مستخدمة بتوسع في تلك المؤسسات. وفي الخط الثاني، توالت صيحات الجمهور ومجموعات حماية الحقوق الرقمية والإلكترونية، ضد سوء استخدام تلك التقنية الإشكالية، الذي امتد من اعتقالات الشرطة لأشخاص بالخطأ بسبب قصور تلك التقنية، إلى ما كشفه إدوارد سنودن من أن "فايسبوك" ملزم قانوناً بتسليم المؤسسات الاستخباراتية الأميركية تلك الصور، على غرار غيرها من البيانات.

قبل "ميتافيرس" الذي يُفتَرض انه سيستند إلى تقنيات معززة أشد كثافة من "تقنية الوجه العميق"، باتت تلك التقنية الأخيرة فشلاً معلناً، وتخلى "فايسبوك" عنها. المرارة أن "فايسبوك" أعلن أنه أزال مليار وجه مع ملحقاتها من الموقع، ولا يعني ذلك أنها غير موجودة في سيرفرات "فايسبوك". والسؤال هو كيف سيكون الحال عندما يسلم الملايين وجوههم وأجسادهم وتصرفاتهم وسلوكياتهم وعلاقاتهم وردود أفعالهم وتصوراتهم عن الناس والعالم، إلى "ميتافيرس" وتقنياته؟ أليس ذلك جديراً بتفكير طويل وعميق؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024