سجالات طرد السياسيين: إبحثوا عن التسوية!

نذير رضا

الإثنين 2020/01/13
ثمة تقليد متعارف عليه في القرى والبلدات اللبنانية، يقضي بإبعاد أو نفي مرتكبي جرائم القتل غير المقصود، منعاً للثأر. لا يتخطّى أي من فعاليات القرى، تلك التسوية، حتى أن السلطات الرسمية، القضائية والأمنية، تتعاون مع الفعاليات على تنفيذها.

وتتجاوز تلك التسوية المتعارف عليها، في أهدافها، بغرض حقن الدماء. فليس كل متورط بالدم غير المقصود، مذنباً. ولا يحكم القضاء على أي متورط بالقتل عن غير قصد، بالإعدام. لكنه في الوقت نفسه، لا ينفي أن هناك مشاعر لدى أهالي القتيل، تتفاوت بين الاحتقان والرغبة في مساواة المصيرين. وهي مشاعر لا تتخطاها الفعاليات الاجتماعية، فتندفع في اتجاه تسوية "النفي"، على قاعدة: "ابعده من الدرب".

تنطبق تلك التقاليد الى حدّ بعيد على السياسيين والمسؤولين الذين يحمّلهم الشعب اللبناني مسؤولية التدهور الاقتصادي وتراجع مستوى العيش. يدرك الشعب أن قسماً من هؤلاء، غير متورط في التدهور الاقتصادي. وأن هناك متورطين، أمعنوا في ايصال البلاد الى الدرك الأسفل من تحمل المسؤوليات الوطنية. ويدرك الناس أيضاً أن المحاسبة في القضاء، تصطدم، واقعاً، بجملة اعتبارات سياسية وشعبية ومذهبية، فاتجه الناس الى التسوية التقليدية: "ابعدهم من الدرب".

وتحييدهم عن الناس، هو تسوية يستفيد منها الطرفان. السياسي، والمواطن المنتفض على واقعه المعيشي، والعاجز في الوقت نفسه عن محاكمة فاسد، أو تقديمه للمحاكمة. فالسياسي يكسب حمايته من الشتيمة، ذلك أن وجوده بين الناس، استفزازي بالشكل المعلن، ويزداد استفزازاً عندما يرتاد المسؤولون الأماكن العامة التي لا يمتلك المواطن قدرة على ارتيادها. وهو حقه، في القيام في رد فعل اعتراضي، لا يؤذي السياسي بقدر ما يبعده ويفرض عليه منفى بعيداً من عيون الناس.

غير أن كثيرين من اللبنانيين، ومن أنصار الأحزاب، هالهم ردّ الفعل. وهي أقل الممكن. فالسياسي طُرد من مطعم، أو مركز تسوق، لكنه لم يُرمَ في حاوية للنفايات، كما حدث في إحدى دول أوروبا الشرقية قبل سنوات، ولم يُقتد الى محاكمة لسؤاله حول شبهات تدور حول أمواله واستغلال النفوذ، وهو مطلب جامع، لا يختلف اثنان على أحقيته، لكنه لم يسفر، منذ 20 عاماً على الاقل، عن توقيف أي شخص تدور حوله شبهات.

لماذا الحملات على ردّ فعل اللبنانيين؟

يتذرّع مناصرو الأحزاب بأن ردّ الفعل يحرم السياسي حقه في ارتياد الأماكن العامة. وأنه، كما سائر المواطنين، يحق له التواجد أينما يشاء. لا شيء يُضاف على هذه الذريعة التي تنتقص من حق المواطنين في التعبير السلمي الكثير، طالما أنها لا تمس الناس العاديين، ولا الفقراء ولقمة عيشتهم التي أحيطت بنقاش كبير منذ بدء استراتيجية قطع الطرق.

ولا يأخذ هؤلاء في الاعتبار حق الاحتجاج الذي يمسّ المسؤول وحده. فالمحتجون الذين يحاولون فرض حظر على ارتياد السياسيين الأماكن العامة، يثأرون من ممارسات سياسيين متراكمة منذ سنوات، تنتقص من حقهم في الحصول على الخدمات، ومن حق الناس في التحرك خارج القيود الأمنية التي تفرضها الإجراءات بسبب وجود سياسي في مكان عام.

اليوم، يقول الثوار إن الشارع ملكهم. سلطتهم هي الأماكن العامة. يتحركون فيها كيفما شاؤوا، بمنأى من مشاركة السياسيين لهذا الفضاء العام. وهو أقل الممكن من حقوق الناس على سلطة لا تنظر في معاناتهم، ولا تتحرك لكشف فساد أو المحاسبة عليه، بل لا تردّ على هتافاتهم في الشارع، وإن تظاهرت بالاستماع، فتسمع على هواها. والثوار، إذ لجأوا الى هذا النوع من الاحتجاج السلمي، فإنهم يكرسون تسوية القرى: ابعاد المرتكبين من الفضاء العام، و"تحييدهم من الدرب".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024