من حقنا أن نهلع

قاسم مرواني

الثلاثاء 2019/09/03
لأيام عديدة، لم تتوقف الحرب عن قرع طبولها، منذ أن استهدفت اسرائيل "حزب الله" في سوريا، وقتلت اثنين من عناصره، والناس تعد العدة. أفتح "فايسبوك" في الصباح فأقرأ تغريدات كتبها شباب لم يعيشوا الحرب يوماً، يهددون ويتوعدون، منتشين بالخطابات الحماسية الرنانة، منادين بالحرب. 

هل بتنا شجعان إلى هذا الحد؟ هل ماتت غريزتنا بالنجاة؟ أم أننا نعيش في بلد لم نعد نملك فيه ما نخسره ولا فارق لدينا إن متنا أم حيينا؟ 

ذهبت إلى قريتي يوم السبت، أخبرني أصدقائي هناك أن حركة العمل شبه متوقفة، الناس خائفة وجميعهم يجهزون أنفسهم للرحيل في أي لحظة، وبعضهم استغرب ما الذي أتى بي إلى هنا؟ قالوا أن علينا جميعاً الهرب، نحن الذين شكلت حرب تموز 2006 وعينا بالحروب، كنا صغاراً قبلها، لكننا بعدها لم نعايش حرباً حقيقية.

اللحظات التي عشناها قبل وخلال استهداف "حزب الله" للآلية الاسرائيلية، أعادت إلينا ذكريات الحروب السابقة. وربما على أحدنا أن يكتب دليلاً للمبتدئين في الحرب، الذين يملأون "فايسبوك" بخطابات النصر، ليشرح لهم ما هي الحرب فعلاً. 

ماذا يعني أن يمر صاروخ الطائرة فوق بيتك وتسمع صافرته؟ عندها تتغير مبادئك كلها في الحياة.

قبلها كنت تعتقد أنك شجاع، وبأن الاسرائيليين فقط من يصاب بالهلع. صوت صافرة الصاروخ لا يأتي وحيداً، بل يرافقه صراخ النساء حتى ينفجر. 

ستبدأ بالبحث عن مكان آمن في بيتك، الذي، ككل بيوت الجنوب، يفتقر إلى ملجأ. ستشعر أنك دجاجة عالقة في القن مع هرّ، ستختبئ تحت الدرج وتوهم نفسك بأنك آمن، رغم معرفتك التامة أن المنزل كله سيتحول إلى أنقاض.

كنا نسمع انطلاقة قذيفة المدفع، صوت عميق مكتوم يأتي من البعيد، نترقب لثوان ثم تسقط القذيفة، يهز انفجارها جدران البيت. قد تفقد أمك وعيها، ويصبح أبوك عاجزاً عن الوقوف، لكن ما إن تسقط القذيفة حتى تشعر بالارتياح. بين انطلاقة القذيفة، وسقوطها، حياة بأكملها تحدث. وخلالها، مئات العيون تنظر إلى السماء، وقلوب تخفق بعنف، وشفاه تتمتم طالبةً رحمة الرب. 

وتأتي المرحلة الثانية، عندما يصدر الصهاينة تحذيراً لسكان قريتك بوجوب المغادرة. هل تعتقد أنك ستبقى؟ صامداً كشجر الأرز؟ لا يا عزيزي، كلنا هرب عند أول تحذير. لكن ليس لدى الجميع رفاهية الهرب. الراعي مثلاً لا يستطيع ترك قطيعه، والمُزارع لا يستطيع ترك رزقه. هؤلاء، بينما تكتب بوستاتك في "فايسبوك"، لا تأخذهم في الإعتبار. 

في طريق نزوحك إلى بيروت، أنصحك أن تبقي عينيك وأذنيك مغلقتين، لأن الصور ستظل مطبوعة في رأسك إلى الأبد. صور الجسور المهدمة والسيارات المحترقة والجثث، جثث الناس الهاربين. ربما ستتعرف إلى بعضهم. أما الصوت الوحيد الذي ستسمعه فهو هدير الطائرة ودقات قلبك المتسارعة.

في بيروت، لن تكون الصورة جميلة كما تعتقد. ما تذكره الآن عن حرب تموز 2006، أنك كنت فتىً يتسكع في الشوارع مع أصدقائه، يلعب الورق. لكنك لا تتذكر أبداً أن أهلك كانوا ينتظرون من يوزع عليهم الإعاشات كي يطعموك، أو يشتروا حفاضات لأخيك الصغير.

ستواجه لحظات صعبة. منزل فلان تعرض للهدم. القرية الفلانية محتلة من قبل الصهاينة. عائلة فلان ماتوا كلهم بصاروخ استهدف سيارتهم. هل تعتقد أنك ستكتب عن ذلك في "فايسبوك"؟ هؤلاء تعرفهم، أقرباؤك أو أقارب من يشاركونك النزوح. وعندما ينهارون أمامك، ستجد أن الدنيا قد ضاقت بك، ولن يكون أمامك سوى الصمت أمام حجم المأساة. 

في مرحلة ما ستشعر بالإرهاق، بأنك استُنزفت تماماً، وبت غير قادر على المتابعة. وفي لحظة ما، ستغمرك السعادة لأن الحرب قد انتهت. لن تهتم لمَن ربح أو خسر. كل ما سيهمك هو انتهاء الحرب. 

وطريق العودة لن تكون مختلفة عن طريق النزوح، بل ربما تكون أقسى. هناك البيوت المهدمة وأصحابها الباكون قربها، والذين بدأوا بنصب الخيم للمبيت. بينما تجول بين أنقاض قريتك، ستشمّ رائحة الجثث، جثث حيوانات أو مقاتلين. سترى الراعي الذي فقد قطيعه، والمُزارع الذي خسر رزقه. ستبدأ بإدراك حجم الكارثة، مع الانقطاع المستمر للكهرباء، والطرق المدمرة.

يوم الأحد، كنت أجلس في صالون المنزل خلف شاشة الحاسوب، منغمساً في العمل. دخلت أمي إلى البيت فجأة، مصابةً بالهلع. طلبت مني أن أوضب أغراضي إستعداداً للنزوح إلى بيروت. كانت قد بدأت، بالنسبة إليها، أولى علامات الحرب المرتقبة. شغّلتُ التلفزيون، فطالعتني أخبار الضربة التي وجهها "حزب الله" إلى آلية عسكرية اسرائيلية. خرجتُ إلى الشرفة، فوجدتُ زحمة خانقة في الطريق. كانت السيارات تتوجه إلى بيروت هرباً من الحرب، وكي لا يتكرر ما شاهدوه في تموز 2006.

لقد دبّ الهلع فينا جميعاً. فنحن، كالبشر جميعاً، نكره الحرب والموت، ونخاف على من نحب.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024