لم نَمُت.. لكن لا ناجين هنا

أمل كعوش

السبت 2020/10/10
لن أضع علامة الأمان على اسمي في فايسبوك. كوني سلمتُ جسدياً من انفجار آخر، لا يعني أنني بخير.

نحن في لبنان لسنا بخير.
قد يموت أحدنا برصاصة طائشة. قد يموت أحدنا في انفجار في مرفأ أو مبنى سكني أو سيارة مفخخة، حين يكون في طريقه لزيارة أو اجتماع عمل أو لمجرد خطوة عابرة.

نحن في لبنان لسنا بخير.
منذ عام فُتِنّا بفكرة أن ثورة ستحقق آمالنا الغائبة. احتللنا ساحات البلد. هتفنا ضد الرأسمالية والفساد. افترشنا الأرض غناء. اجتمعنا في حلقات حوار ونقاشات مبشّرة بغد أفضل. وجدنا من يشبهنا في وسط العاصفة. وجدنا أننا حقاً كنا نشبه أنفسنا التي نحبّ. لم نكن متوهّمين.
لكن الرأسمالية افترستنا مرة أخرى. كنّا سابقاً بين فكّي الأفعى، وصرنا اليوم في ظلمة أحشائها. ابتلعت المصارف جنى أعمارنا. صرنا عاطلين عن العمل. ثم جاءت جائحة عالمية لتقضم ما تبقّى لنا من أفق. كمّمت أفواهنا حقيقةً. صرنا حبيسي المنازل نتمسّك بخيوط الأمل والحب كي نبقى على قيد الحياة. ثم كان المرفأ.

نحن في لبنان لسنا بخير.
بتنا نشاهد فيلماً سياسياً يعرض في شاشة لسنا فيه مخرجين ولا كاتبي سيناريو ولا حتى عاملي إضاءة. الفيلم لا نور فيه ولا أغنيات. نشاهد الفيلم بعيون مفتوحة سئمت من تكرار التاريخ. نحن متفرّجون وفي أيدينا علب البوشار المخدّر يسكّن هول ما نراه. جلّ ما نستطيع فعله هو ابتلاع حبّات أخرى منه لنصدر ضجيجاً داخلياً يقطع عنّا نشاز الصوت في الصورة المعروضة أمامنا.

نحن في لبنان لسنا بخير.
ننتظر أملاً يهبط علينا من سحابة عابرة ونتمسّك به قشّة منقذة من جحيم النهر الجارف. نتسلّق أغصان شجرة يابسة كي نقطف آخر الثمر. نراقب الغيم في انتظار المطر. نحن لا نريد انتظار انفجار آخر.
صرنا نفكّر جدّياً بالهجرة وننتظر رحمة السفارات. نسمع أصوات أولئك الذين نجوا وصاروا في بلاد غريبة ونشاهد وجوههم في شاشات بائسة. الغربة قاسية. ليتنا معكم أم ليتكم معنا؟ لم نعد نعرف.

نحن في لبنان لسنا بخير.
في الفترة الأخيرة وجدت نفسي أغوص في دهليز معتم. تُطرح فكرة تزويدي بورقة دعوة قد تأتيني بتأشيرة سفر لانتشالي من الجحيم. أسأل أهل القانون فيقولون لي أن ثمة مجازفة في الأمر وأن الحصول على تأشيرة ليس مضموناً كوني لاجئة فلسطينية في بلد منهار على كامل الصعد، وفي زمن فيه جائحة كبرى ودول أكبر تتربّص باللاجئين. إلّا أن ورقة الدعوة السحرية لا تصلني أبداً. وفي تحوّل درامي، تصبح قصّتها فيلماً آخراً أشاهده وحدي على شاشة ولا أفهم أحداثه. فأقرر الاكتفاء بالفيلم اللبناني. البوشار الذي لديّ لن يكفيني لمشاهدة فيلم آخر أساساً.

نحن في لبنان لسنا بخير.
يقول لي صديق: "للمغتربين رفاهية الوقت. هم لا يعيشون مثلنا كل يوم بيومه ما بين الزحام على ربطة الخبز وقطرة الدواء، انقطاع التيار الكهربائي، ودفع الأموال مقابل الحصول على مياه نظيفة للشرب. ومن لم يعش منهم حرباً في السابق، لن يفهم معنى ترقّب الموت وراء كل ركن وكل نفَس مقطوع".

وبنفَس مقطوع أمشي. أمشي مبتعدة عن دروب الهجرة ورياح مرفأ بيروت. أنزع عني كل الشظايا التي علقت في ذاكرتي، ألملم كلمات سامة علقت بي كنثرات زجاج لئيمة، وأقرر أن أستمر في الأغنيات، ضحكات الأطفال واللحظات السعيدة. أمشي بعيداً، قبل أن يدوّي انفجار "طريق الجديدة" وندخل في نفق مظلم آخر. أتفقّد قلبي. ما زال كما هو. لكنه لم يعد يتأثر. أحدهم لم ينتشله من الموت. أحدهم لن ينتشل أياً منا من الموت. ولن ننقذ أنفسنا بتأكيد نجاتنا افتراضياً من كارثة انسانية أخرى. لدينا فقط ذلك الأمل، يدغدغنا بين الحين والحين، لنضحك قليلاً ولنفرد أمامنا طريق عمرنا الجديد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024