الحَجْر الصحي.. واحد من تلك السجون

آية الراوي

الثلاثاء 2020/03/03
تم فرض الحجر الصحي في لبنان بعد تشخيص إصابات بفيروس الكورونا. وصدر قرار بإقفال المدارس والجامعات والحضانات في محاولة لعزل المرض. في سياق مختلف، أغلقت اليونان حدودها على اللاجئين السوريين المتدفقين من تركيا، بعدما أعلنت الأخيرة عدم منعهم من العبور، فوجدوا أنفسهم في مصيَدة، معزولين عن أي أمل لهم في العبور إلى "أوروبا الجميلة"، حسب قول أحد الأصدقاء.

على الصعيد الاقتصادي، تحجز المصارف أموال المودعين، وتعزل بذلك المواطن عن مصدر رزقه المكدّس في شكل أرقام في حسابات تديرها خوارزميات السوق، كما تعزله عن سائر المواطنين "أصحاب الامتيازات" الذين بوسعهم التصرف بثرواتهم كما شاؤوا.

في الآونة الأخيرة، شاهدنا كيف شيدت الجدران في بيروت بهدف عزل الناس عن مراكز الدولة وقوى الأمن، ووضعت الدشم لعزل المناطق عن بعضها البعض. انتشر شريط فيديو لأمّ لبنانية ترثي ابنتها المدفونة وراء سياج يعزلها عنها، بحيث لا تستطيع حتى البكاء على قبرها، بعدما حُرِمت من رؤيتها حيّةً. أهالينا الذين فقدوا الأمل في أي تحسّن، ينعزلون في بيوتهم أمام شاشات التلفاز. أولادهم المغتربون ينعزلون في فقاعات أو في مشاغلهم اليومية أو في زيارات سياحية إلى لبنان، تكون عبارة عن نوع من التجوّل بين "أكواريومات" أو عوالم مصغّرة معزولة.

في الجوامع ومجالس العزاء والمدارس، تُعزل النساء عن الرجال، البنات عن الصبيان، الصغار عن الكبار… حالات لا تنتهي من العزل والفصل والحجر الصحي والمادي والمعنوي.

أصبحنا نعيش في زمن الحجر، على كل المستويات. بدأت ثقافة الحجر الصحي في زمن الطواعين والأوبئة، وكانت تتم لمدة أربعين يوماً (الاسم باللغات اللاتينية يعني أربعينية)، ظناً أن هذه الفترة كفيلة بإبطال مفعول المرض، وهذا الرقم رمزي على الأرجح. فالمسيح عبَر الصحراء وصام أربعين يوماً، والوحي نزل على النبي محمد في سن الأربعين، إلخ. ويُقال أن أولى حالات الحجر الأربعيني فُرضت في بعض المدن الساحلية الأوروبية لحماية سكانها من الطاعون المتفشي بين ركّاب السفن الوافدة. وقد امتدت هذه الثقافة إلى دوائر أُخرى من الحياة، واجتازت الحيّز الزمني المحدد لها ووظيفتها الصحية. حتى أنها تخطّت تاريخ صلاحيتها، فأصبح العالم بأكمله صحراء يجب عبورها أزلياًـ صحراء في شكل مقاطعات أو وحدات، بعضها مرئي وبعضها الآخر خفيّ: المستويات العملانية الملموسة لها علاقة بالجغرافيا والحدود وتنظيم المؤسسات والعمل والمدن والأحياء وأماكن العبادة والسكن، بينما تتمثل الأصعدة الأكثر عمقاً واستعصاءً في العزل الطبقي، العزل الجنساني، العزل العنصري، العزل الإيديولوجي بمعنى خصخصة المفاهيم وأشكال المعرفة وعزلها عن بعضها البعض. العزل الجسدي الاجتماعي، الذي بات أحد مكوّنات عصر التكنولوجيا بصبغته الفردانية المُرعبة، العزل الروحي والإصرار على إبراز الاختلافات بين الأديان والمعتقدات والطقوس، عوضاً عن صهرها في بوتقة إنسانية متجانسة رغم اختلافاتها، وظيفتها إرشادية إلهامية لا حتمية قمعية…

قد تبدو الفيروسات "خبيثة"، لكنها حتى لو تسببت في المرض، تبقى جزءاً من المنظومة الحيوية، وهي عنصر مهم في تطوير الجينوم البشري واستمرارية الحياة على الأرض. هي بطبيعة الحال فتّاكة و"شريرة"، لكن هذا توصيف بشري لا يأخذ في الاعتبار وظيفة هذه الكائنات من المنظور العقلاني البيولوجي الأوسع.

كذلك الفيروسات الوهمية التي نشأت وتفشّت عبر التاريخ، زرعت الهلع والخوف في المجتمعات، كي يُحجز أفرادها في مستوصفات رمزية معقّمة، لكن الأوكسيجين قد ينفد في هذه المستوصفات ويختنق أهلها فيها، وقد يتقاتلون في ما بينهم، وفي أحسن الأحوال يُصابون بأمراض أُخرى مثل الفوبيا والهوس وجنون العظمة والانسلاب والانسلاخ على أنواعه…

وتجنّباً لاستمرار هذا السيناريو السِفري، أي الأبوكاليبتي، ربما علينا أن نرحّب بتفشّي عدوى الآخر في منظومتنا الحيوية الإنسانية، ونعمل على تكسير الجدران بدلاً من تشييدها، على اختراق المناطق والمعابر والحواجز، على الخروج من الحجر الشخصي الذي نعيشه يومياً بملء إرادتنا والذي يجزّئ عالمنا إلى عوالم هي أشبه بقاعات انتظار وسجون وبرازخ لا متناهية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024