أسد الكيماوي..الضربة التي لم تقتله تقوّيه!

بتول خليل

السبت 2018/04/14
الضربة الثلاثية التي قادتها الولايات المتحدة ونفذتها، فجر السبت، إلى جانب كل من فرنسا وبريطانيا، واستهدفت البنية التحتية للبرنامج الكيماوي السوري، بدت وكأنها شكّلت مناسبة للاحتفال بالنصر، وفقاً للمفاهيم والاعتبارات المقلوبة والغريبة، التي يبدو أنها ما زالت قادرة على دغدغة الموالين للنظام وإقناعهم، ولو غصباً عنهم، بأنهم لا يعرفون معنى الهزيمة، بل ينتقلون من نصرٍ إلى آخر. وهذه عادة كرستها البروباغندا السورية التي عادة ما تجنح نحو تدعيم صورة الأسد وهالته، ونسب القوة والحكمة وحسن القيادة إليه، مهما اختلفت تطورات الأحداث ومآلاتها.

وسائل الإعلام الموالية والحليفة لنظام الأسد، وعلى رأسها وكالات الأنباء والقنوات الرسمية السورية، لم تر في ضربة الـ50 دقيقة، سوى "عداون سافر" أكّد مرة جديدة "صمود سوريا وأهلها"، مبرزة قدرات نظام الدفاع الجوي السوري، الذي خاض مواجهة أدّت إلى إسقاط الجزء الأكبر من الصواريخ التي استهدفت مواقع النظام فور اقترابها من الأهداف، تبعه الترويج بفشل العدوان الثلاثي، الذي استدعى نزول عشرات السوريين إلى شوارع دمشق ومحافظات أخرى للاحتفال بـ"النصر الجديد". وبدت وسائل إعلام النظام في تغطيتها لما حصل، أشبه بمرصد يكرر من خلال تقاريره ومذيعيه ومراسليه، أن الضربة حصلت وتم إفشالها، من دون الحديث عن أي احتمال للرد على ما وصفوه بـ"العدوان الغاشم".


هذا الأسلوب، عكس سياسة التجاهل التي دأب عليها النظام، الذي، كعادته، لم يرَ نفسه معنياً بالتصدي للدول التي وجّهت ضرباتها إليه وقصفت منشآته، موكلاً لحلفائه الإيرانيين والروس مهمة التهديد والتمديد والوعيد واختيار أسلوب الرد الذي يشاؤون، في حين اعتبر أن أولوياته تنحصر في التركيز على معركته في الداخل السوري. وقد يكون الفيديو الذي نشرته صفحة الرئاسة السورية في مواقع التواصل مرفقاً بعبارة "صباح الصمود"، زاعمين فيه (رغم تشكيك كثيرين في تاريخ تصويره) أنّه التقط للأسد بعد ساعات من الضربة الثلاثية وهو يدخل قصر الرئاسة حاملاً حقيبة جلدية، يوحي بأنه رسالة إلى الداخل السوري تهدف بالدرجة الأولى لتكريس الصورة القوية للأسد وإظهاره متماسكاً، غير خائف من الظهور العلني، لا تهزّه ضربات ولا تؤثّر فيه صواريخ. وهذه استراتيجية إعلامية اعتاد النظام تقديمها لمواليه كوجبة معنوية يطيب لهم تناولها، وهم يستمتعون بالنظر إلى قائدهم "الصامد" في وجه التحديات في كافة مراحل ومفاصل المعارك في سوريا.



هاجس الأسد في إظهار صورته في الإعلام على هذا الشكل الموجّه إلى طائفته ومواليه في الداخل السوري، يشكّل أولوية مطلقة ومهمة، كانت دوماً من أهم ركائز استمرار حكم والده ومن ثم حكمه. وذلك يرجع إلى ضرورة التغذية الدائمة للذهنية الطاغية على طائفته ومواليه، والتي تستوجب ظهوره كرمزٍ له قدسية وقدرات تفوق البشر العاديين. والإنطلاق من هذا المفهوم يجعل من السهل على أي مراقب إدراك مسار سياسات البطش والتنكيل والتحقير لكل من تجرّأ على الاعتراض على بشار الأسد ووالده من قبله.

كما أن ذلك يشكّل منطلقاً أساسياً ومهماً لفهم دوافع قراراته العسكرية التدميرية، والتي تنتهج التهجير والإبادة، في مختلف المعارك التي خاضها النظام، وآخِرُها تدميره الغوطة ومدينة دوما، التي قرر تسطير نهايتها بهجوم كيماوي، يهدف بالدرجة الأولى وقبل أي شيء، إلى كسر إرادة كل فرد من الشعب السوري عارضه أو ثار في وجهه. والحجة التي يطرحها النظام من اعتبار أنه كان قد حقق الانتصار فعلاً، تتعارض مع ضرب دوما بالكيماوي، وهي حجة مقلوبة عليه. إذ إنّ ضربه لدوما بالكيماوي في لحظة "انتصاره" متلازم مع قدرته على إخفاء معالم جريمته وطمس آثارها فور دخوله إلى المدينة. كما أنه يحقق هدفه الاستراتيجي الثاني بعد الترهيب، من حيث الدور المرعب للسلاح الكيماوي في تهجير أهل دوما وإرغامهم على ترك أرضهم وبيوتهم. أما الهدف الثالث، فهو توجيهه رسالة استباقية إلى إدلب أو أي منطقة يقرر النظام توجيه قواته نحوها من خلال إخضاعهم، كون الرعب قادم، ولا أحد قادراً على إيقافه أو ردعه، مستغلاً علمه بقناعة دول الغرب، بعدم تحويل سوريا إلى دولة فاشلة ما يستوجب بقاءه في الحكم، وبأن أحداً لن يجرؤ على المساس به، انطلاقاً من مصالح الغرب المتمثلة في عدم السماح لإعادة سيطرة وانتشار "داعش" والجماعات الإسلامية المتطرفة في سوريا، وعدم قدرة أوروبا ودول الجوار على استيعاب واستقبال موجة جديدة من اللاجئين المؤيدين له في حال سقوطه.

الإنكار الدائم للأسد وحلفائه باستخدام الأسلحة الكيماوية، رافقه إصرار ملفت هذه المرة، عقب هجومه على دوما، فيما راحت وسائل إعلام روسية وإيرانية تروّج بأن مزاعم الولايات المتحدة ومعها فرنسا وبريطانيا حول الهجوم الكيماوي تبدو غير منطقية، متساءلة: "لماذا يحتاج المنتصر لاستخدام السلاح الكيماوي؟". كما تبنّت قناة "روسيا اليوم" ما صدر مؤخراً عن الجيش الروسي بأن الهجوم الكيماوي على دوما اختلقته جماعة "الخوذ البيضاء"، والتي يبدو، من وجهة نظرها، أن ترامب يبني قراراته بناءً على ما تبثّه هذه المجموعة.

هذه التغطية بما حملته من تشكيكٍ وادعاءات، تعكس تحدياً واضحاً للمجتمع الدولي، ضمن خطاب مكرور قائم على الشعارات وهلوسات "نظريات المؤامرة"، غير معني بتقديم أي تحليل أو قراءة منطقية أو شاملة لتطورات الأحداث. فالتمترس وراء حجة السؤال عن دافع الأسد لاستخدام السلاح الكيماوي وهو "المنتصر" في دوما، وجد له المحللون أكثر من إجابة وفي أكثر من اتجاه. معتبرين أن فهم رمزية الغوطة الشرقية له أهمية محورية لإلقاء الضوء على الجواب، فهذه المنطقة كانت من المناطق الأولى في سوريا، التي انطلقت منها التظاهرات المناهضة لنظام الأسد العام 2011، وقد تم تحويلها إلى نقطة انطلاق وعبور لكتائب المعارضة المسلحة التي حاولت اقتحام العاصمة. كما أن نفاد صبر الأسد وسأمه من الانتظار للتوصل إلى اتفاق مع "جيش الإسلام" الذي كان يسيطر على دوما في الغوطة الشرقية، جعله يذهب مرة جديدة إلى الهجوم الكيماوي، الذي أجبر "جيش الإسلام" بعد ساعات قليلة على تسليم أسلحته والانسحاب إلى الريف الشمالي، وهو ما أقرّ به متحدث باسمه، حين قال إن "قصف دوما بالكيماوي هو ما دفعنا إلى الانجاز السريع للاتفاق".

كما اعتبر محللون أن الهجوم الكيماوي الأخير أتى إرضاءً وتعويضاً للمجتمع العلوي الملتف حوله والوفي له، الذي، من دون وقوفه إلى جانبه، كان لينتهي منذ سنوات، ما يجعله ملزماً بتقديم الأضاحي لأنصاره وإبقائهم سعداء خشية أن يتخلصوا منه في حال شعورهم بأنه خذلهم. وفي حين يبدو أن قصف دوما بالكيماوي طريقة غريبة ووحشية للوفاء، إلا أنها واقعية إلى حد كبير، خصوصاً أنها أجبرت المقاتلين على تسليم معتقلي النظام الذين كانوا في قبضتهم، إلى عائلاتهم، بعد سنوات من الأسر، ما بدا وكأنه يندرج في إطار الغاية تبرر الوسيلة.

هكذا، فإن الأسد الذي يصفه ترامب بـ"الحيوان"، أثبت بقاؤه في سدة الحكم، رغم كل الأحداث التي عصفت بسوريا، أنه "حيوان" ذكي للغاية. أدرك منذ البداية أن الغرب، وإن سعى دائماً لإضعافه، غير قادر على إيجاد بديل له. بالتالي، لم يعد يهتم لصورته الضعيفة والمشوّهة في الخارج، طالما أن آلته الإعلامية تعمل بأقصى طاقتها، وبشتّى السبل الدعائية، لتلميع شكله ونفخ إنجازاته واستغلال أي حدث، مهما كانت طبيعته، لتحويله إلى إنجاز ونصر مؤزّر يستأهل وضع الأوسمة والنياشين على صدر الزعيم المفدّى. لذا فإن الضربة الأخيرة لن تكون استثناءً عن هذه القاعدة، إذ تتيح ظروفها ومحدوديتها تحويلها إلى هزيمة للغرب ونصرٍ للأسد ومحوره الممانع، ولإطلاق الأهازيج وشعارات النصر والتصدّي والتحدّي من على الشاشات ومنصات مواقع التواصل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024