باسيل الأسوأ من لوبان

حسن مراد

الإثنين 2019/06/17
على مدار الأيام الماضية، ضج الفضاء الافتراضي في لبنان بتغريدتين لوزير الخارجية جبران باسيل أثارتا موجة من الجدل. تناولت التغريدة الأولى مفهوم معاليه للانتماء اللبناني حيث وصفه بالانتماء الجيني، أما الثانية فاستعادت خطاباً حول أفضلية اليد العاملة اللبنانية.

وأظهرت ردود الأفعال مع هاتين التغريدتين أن اللبنانيين اعتبروا المقصودين بكلام باسيل، السوريين المقيمين في لبنان، خصوصاً إذا ما ربطت هذه التغريدات بتصريحات سابقة له عكست تحاملاً عليهم لا سيما اللاجئين منهم.

أضف إلى ذلك أن شريحة من اللبنانيين، ومن ضمنهم محازبوه، لا تخفي عدائيتها تجاههم وتجلى ذلك بوضوح مع "حملة التوعية" التي اطلقها قطاع الشباب في التيار الوطني الحر، حملة واكبها تلفزيون OTV بتغطية إعلامية لافتة.



إذا ما تم التمعّن في كلام جبران باسيل، يتضح أن ما قدمه من حجج للتصويب على اللاجئين السوريين بهذا الشكل المسيء، يتقاطع مع الخطاب السياسي لأحزاب اليمين المتطرف الأوروبي، لا سيما حزب التجمع الوطني الفرنسي. ففي معرض مقاربتها لما تصفه "تدفق اللاجئين والمهاجرين" إلى فرنسا، ترتكز مارين لوبان على حجتين اثنتين: تصوير الأمر على أنه تهديد اقتصادي لفرنسا، وتهديد ثقافي للبلد. 

والتقاطع لا يتوقف على الشكل، بل ينسحب أيضاً على المضمون. فتفكيك هذه الحجج ومقاربتها بواقعية وعقلانية بعيداً من الديماغوجية، يؤدي دوماً إلى تعريته: هو خطاب شعبوي عابر للحدود وليس إلا للاستهلاك الإعلامي.  

بيد أنه يمكن تسجيل مفارقة في طريقة التصدي الإعلامية لهذا الخطاب. فرغم أن ما يصدر عن اليمين المتطرف يلقى صدًى إعلامياً، فإن الإعلام الفرنسي يؤدي دوراً محورياً في تفنيده. فالصحف على وجه الخصوص، متأهبة دوماً لمجابهة ما يتم تداوله من معلومات وأخبار مضللة.

واللافت على هذا الصعيد أنها تهوى نشر البيانات الإحصائية والدراسات العلمية لتدعيم موقفها ومحو الصورة النمطية عن المهاجر القادم إلى فرنسا بغية الاستفادة من نظام الرعاية الاجتماعية والطبابة المجانية أو منافسته لليد العاملة الفرنسية أو استحالة اندماجهم في المجتمع الفرنسي

في المقابل، لم يكتف بعض وسائل إعلامية لبنانية بدور المتفرج، بل تحول أيضاً إلى شريك في تغذية هذا الخطاب المسيء والتضليلي، سواء عبر تقارير إخبارية ومقالات صحافية أو حتى برامج كوميدية، ما يحيلنا إلى مسألة ذات أهمية كبيرة وهي دور الاعلام في إثارة الشارع والتحلي بالمسؤولية والموضوعية في نقل الصورة والمشهد.

ونلاحظ كذلك أن التصدي لما غرد به جبران باسيل كان في إجماله رداً سياسياً خاصة لناحية الدعوة لاستقالته. صحيحٌ أنه تم تداول بعض الأرقام في مواقع التواصل الاجتماعي وفي برامج حوارية لتفنيد هذا الخطاب، لكن الأمر ظل محدوداً، مقارنةً "بنشاط" الإعلام الفرنسي على هذا الصعيد.

من جانب آخر، الحملة المناوئة لهذه التغريدات أتت بشكل رئيس من مواقع التواصل الاجتماعي. ورغم أهمية الفضاء الافتراضي وتحوله إلى مصدر للمعلومات، إلا أن ذلك لا يمحو دور الإعلام التقليدي، ما يعني وجود فراغ لم يُملأ في لبنان بخلاف الوضع في فرنسا، خصوصاً أن الفضاء الافتراضي لا تحكمه المهنية الإعلامية ولا ضوابطها. 

لكن سبباً آخر يساعد في تفنيد هذه الحجج، وهو اختلاف البيئتين اللبنانية والفرنسية. ففي فرنسا نجد منظومة قضائية وتشريعية تضبط هذا الخطاب وتصوبه، عند الحاجة، كما تدين كل كلام عنصري، ما يدفع السياسيين إلى توخي الحذر في اطلالاتهم العامة ومجالسهم الخاصة، لا سيما لناحية العبارات المستخدمة. فعلى الرغم من عنصريته، يجهد اليمين المتطرف الفرنسي لتقديم رؤيته في قالب اقتصادي، أمرٌ يُسهّل التسويق الإعلامي المضاد وتفنيد هذه الحجج بالأرقام أي بمحاكاة عقلانية بعيدة عن الشعبوية.  

ويبقى أن الانقسام اللبناني حيال هذا الملف حاد، ويأخذ بُعداً ديموغرافياً، بأثر من هواجس وجودية لدى شريحة من اللبنانيين، لا سيما المسيحيين، بخلاف فرنسا التي استقر فيها لاجئون ومهاجرون منذ عقود وباتوا مع مرور السنوات مواطنين فرنسيين.

هذا الواقع الفرنسي يطيح قانونياً، محاولات اليمين المتطرف الخلط بين المهاجرين واللاجئين الجدد من جهة، والفرنسيين من أصل أجنبي من جهة ثانية (سواء استحصلوا على الجنسية أو ولدوا في فرنسا وترعرعوا فيها). إذ يسهل على الاعلام التصويب على خطاب اليمين المتطرف من زاوية تبنيه سياسة تمييزية تحيل المواطنين الفرنسيين إلى درجة أولى وثانية، خصوصاً عندما يصل الأمر إلى الغمز من زاوية "الاستبدال العظيم".

أما على صعيد منافسة اليد العاملة، يهوى الموالون لتغريدات باسيل تصوير السوريين كسبب للمشكلة، متناسين (عن عمد أو جهل) أن أعداداً كبيرة منهم عرضة للاستغلال إذ تدفعهم ظروفهم الاجتماعية لقبول راتب أقل، لساعات عمل أكثر ومن دون أي ضمانات. بل ويتناسون أيضاً حجم القوى العاملة (والمهاجرين والمجنسين) اللبنانية حول العالم، لا سيما في العالم العربي. ولمُ يُنسَ بعد الرد السعودي على تغريدة باسيل بشأن القوى العاملة الأجنبية في لبنان ومن بينها السعودية، إذ تم تذكير وزير الخارجية بمئات الآلاف من اللبنانيين العاملين في المملكة، والذين يمكن طردهم إن تقرّرت معاملة بالمِثل.

اللافت، في هذا الخصوص مبادرة أنصار باسيل لاستحضار أسواق العمل الأجنبية ومقارنتها بلبنان، وكأن منافسة اليد العاملة والرأسمال الأجنبيين بصورة غير مشروعة (على حد وصفهم خلال "حملة التوعية") ليست بسبب الفوضى التي تحكم سوق العمل اللبناني في ظل غياب التشريعات، على عكس الدول الأجنبية التي ترعاها أطر قانونية تنظم عملية استيعاب اليد العاملة الأجنبية ما يلجم، نوعاً ما، الخطاب العنصري في الغرب. بالتالي، ومن خلال هذا النوع من المقارنة والتصويب العشوائي، نلمس محاولة في لبنان لإسباغ صفة "الجلاد" على الضحية.

وفيما يتوجب اتخاذ مقاربة هذا الملف في فرنسا دوماً من زاوية عقلانية، لكن بالحد الأدنى ثمة منظومة إعلامية، قانونية وسياسية، تحد من انتشاره، على عكس الحال في لبنان حيث الأمور منفلتة من عقالها. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024