لبنان يتخطى بعبع الحرب الأهلية في سوريا

وليد بركسية

الخميس 2019/10/31
"فقير عم يضرب فقير لحتى الغني يبقى غني"، هي العبارة التي تداولها اللبنانيون تعليقاً على صور الاعتداء على المتظاهرين السلميين من قبل شبيحة "حزب الله" و"حركة أمل" في بيروت هذا الأسبوع. لكن الصور نفسها كان لها أثر مختلف لدى السوريين الذين تذكروا كيف قوبلت ثورتهم السلمية أيضاً، بالعنف الممنهج، وكيف انحدرت تدريجياً نحو العنف بدورها.

وانتشرت بين السوريين في مواقع التواصل، صور تقارن بين عنف ضد المتظاهرين اللبنانيين وصور مماثلة من العام 2011 تحديداً، للعنف ضد المتظاهرين السوريين حينها. ولم يكن ذلك نوعاً من الشوفينية السورية، التي تعتقد أن سوريا مركز الكوكب وكل شيء يجب أن يدور حولها، بل من أجل إثبات نبل الثورة ضد بشار الأسد في وجه الخطاب الإعلامي والدبلوماسي المضاد الذي يحاول إفراغها من مضمونها بالزعم أنها "حركة إرهابية"، بقدر ما كان ذلك تحذيراً من مصير مماثل في لبنان، انطلاقاً من حقيقة أن مرتكبي العنف هم نفسهم في البلدين.

ويقود ذلك إلى الحديث عن مصدر العنف في الثورات، وهل يمكن أن يخلو أي احتجاج من "التعبير العنيف" (تكسير واجهات محلات، حرق إطارات، شتائم، إغلاق طرقات، ..) وهل هنالك فعلاً شيء يدعي "إتيكيت التظاهر" أو الثورة النظيفة، وغيرها من العبارات التي يكررها إعلام السلطة عموماً في رده على التظاهرات، خصوصاً أن تلك العبارات، بعد تجاوز الضحك عليها، تبقى فضفاضة. فما يراه الإعلام اللبناني بأنه احتجاج عنيف ضد السلطة، يصور في الإعلام السوري الرسمي على أنه نوع من "الميوعة" لا أكثر، ويصبح قمع التظاهرات بالتالي نوعاً من التأديب الأبوي الضروري ضد المتظاهرين "المخنثين".

ومع التسليم بأن التظاهر في حد ذاته ليس فعلاً عنيفاً، بل هو رد فعل على عنف تمارسه السلطة ضد المدنيين بأشكال عديدة، فإن السلوك المضاد، الذي تظهره الصور الأخيرة من بيروت، والمتمثل في ضرب المتظاهرين حتى وهم لا يبدون أي نوع من أشكال التظاهر العنيف، هو العنف بحد ذاته. وفي حال استمراره، قد يؤدي إلى رد فعل مماثل، مثلما حصل في سوريا التي تحولت من التظاهر السلمي العام 2011 إلى العسكرة لاحقاً. ليس لأن الشعب السوري ثار ضد الديكتاتورية الأسدية، بل لأن العسكرة كانت حينها الحل الوحيد للدفاع عن النفس إثر اعتماد الحل الأمني من قبل النظام وحلفائه، ومن ضمنهم "حزب الله" الذي يقوم بقمع التظاهرات في لبنان اليوم.

وإن كان الاعلام الخاص بالثورة المضادة، ليس فقط في لبنان بل في كافة دول المنطقة، يروج دائماً لسوريا كنموذج مخيف لكل من يريد الثورة ضد السلطات، فإن ما يجب أن يثير الخوف فعلاً هو السبب وراء انجرار سوريا للعنف أصلاً، والذي لا تذكر به الصورة اللبنانية فقط، بل تماثله أيضاً. فالثورة السورية، مثلما هي الثورة اللبنانية اليوم، بدأت بالورود والأغاني والهتافات بشكل سلمي بحت. وكان الرد هو خطاب التخوين من جهة والقبضة الأمنية والرصاص الحي من جهة ثانية، ولأن العنف يولد عنفاً، انحدرت البلاد تدريجياً نحو ما هي عليه اليوم.

يمكن تلمس كل ذلك في تقرير أعدته قناة "أو تي في" التابعة للتيار الوطني الحر، والناطقة باسم "العهد" في لبنان، مطلع الأسبوع، تحدثت فيه على طريقة قناة "الدنيا" السورية شبه الرسمية، أو القنوات الموالية لنظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عن خطر الثورات الملونة. وحذرت من أن التظاهر بحد ذاته يقود للخراب، وربطت فيه بين أي احتجاجات حالية أو سابقة أو لاحقة، بمخططات أميركية ضد الاستقرار. ولم يكن خطاب التخوين في التقرير مفاجئاً تماماً مثلما كان الدليل الذي استندت القناة عليه لتبرير خطابها، أي دوامة العنف في سوريا.

هذا الخطاب يتكرر منذ سنوات في دول المنطقة بعد الربيع العربي، وشاع في السودان هذا العام مع انطلاق الاحتجاجات ضد نظام الرئيس السابق عمر البشير، وفي الجزائر التي شهدت احتجاجات مماثلة بدورها ضد نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. ويتم عبره تقديم السيناريو السوري على أنه حتمي لا مفر منه، بالقول أنه الشيء الذي يحصل تلقائياً عندما يطالب الناس بإطاحة زعمائهم، وعندما يتم تحدي النظام الطبيعي، فإن الأمور بالتأكيد ستنهار، كما يتم دعم التهديد السوري الخطير بعدد من الأمثلة في المنطقة، مثل ليبيا الممزقة بين فصائل متقاتلة، والعراق.

ومع كل استياء شعبي جديد في دول المنطقة، يتم استحضار النموذج السوري، وينتشر عبر الإعلام والسوشيال ميديا نوع من التوبيخ والوعظ لكل من يعتقد بأن هناك طريقة آخرى للحكم لا تقوم على سياسة الرجال الأقوياء، ويمكن تلمسه في لبنان اليوم أيضاً. والأسوأ منه ربما هو التعقيب الذي يأتي من أشخاص باتوا يرددون عبارات مماثلة لما كان يتردد قبل الربيع العربي، بأن العرب لا يستحقون الديموقراطية وبأن الشخصية العربية العنيدة بحاجة لحاكم قوي "يكسر روس الناس"، وهي عبارات تقوم بإشاعتها طبقة المشاهير المرتبطة بالسلطة، وربما كانت الممثلة السورية سوزان نجم الدين آخر من تحدث بهذا المنطق مؤخراً.

المبشر هنا أن شعوب المنطقة تظهر تجاوزها لتلك المخاوف التي تسوقها السلطات. ففي لبنان، كما الحال في السودان والجزائر وحتى مصر، كان هنالك تأكيد عبر السوشيال ميديا، على وحدة الشعب ضد خطاب الحرب الأهلية. فمع صور ضرب المتظاهرين التي أججت ذكريات السوريين لتأكيد أن ما يجري في بلادهم ليس حرباً أهلية بل ثورة ضد سلطة إرهابية، كتب اللبنانيون أن الحرب الأهلية اللبنانية انتهت أخيراً في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وهو التاريخ الذي وقف فيه كل اللبنانيين من كافة الطوائف في صف واحد أخيراً ضد نظام المحاصصة الطائفي بكافة رموزه وما أفرزه من طبقة سياسية فاسدة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024