خمسة أطفال ورغيف واحد

قاسم مرواني

السبت 2019/04/13
حتى خروجنا من الغابة، كنا كبشر، مقلّدين للطبيعة بكل تصرفاتنا. مارسنا الجنس كالحيوانات، وكانت وضعية الكلب هي الوحيدة التي علّمتنا إياها الطبيعة، إلى جانب التقاط الطعام ومن ثم الصيد. وحتى وقت متأخر، أي منذ أقلّ من خمسين عاماً، ظل رجال، حين تنجب زوجاتهم، يأخذون المشيمة ويدفنها في الأرض، مقلّدين الحيوانات التي تأكل المشيمة مخافة أن تجذب رائحتها للحيوانات المفترسة.

وإذا أنجبت قطة أولاداً مرضى، فإنها تقتلهم لأنهم سيكونون عاجزين عن العيش بمفردهم. وإذا أنجبت أربعة أولاد، وكانت عاجزة عن حمايتهم تقوم بقتلهم، وإذا وجدت نفسها في محيط شحيح بالطعام تأكل بعضاً من أولادها كي تؤمّن الحليب للبقية. هذا تصرف غريزي مشترك بين جميع الحيوانات بعد حساب بسيط لاحتمالات النجاة.

كما الحيوانات، مارس أجدادنا القدماء السياسة ذاتها. هكذا كان البدو يئدون أطفالهم كي لا يعيقوا ترحالهم. في أماكن أخرى من العالم، إذا ولد الأطفال في موسم القحط، يُقتلون. عند الأسكيمو القدماء، كما يقول المؤرخ ويل ديورانت، إذا بلغ الرجل من العمر عتياً وبات عاجزاً عن تحصيل قوته، وجب على أولاده قتله. كل ذلك كان مغلّفاً بتعاليم دينية تهوّن على البشر وِزر أفعالهم هذه.

في العصر الحديث، أصبحنا قادرين على الإرتقاء بتصرفاتنا ووضع قيم اجتماعية وحياتية تحفظ كرامة الإنسان وتحميه مهما كانت ظروفه. لكن، هل نتّخذ دائماً الخيار الصائب؟

كانت عائلتنا تتألف من خمسة أخوة، وكان أبي إلى حدّ ما، مقتدراً مادياً، حيث لم يحتج أي منا للعمل كي يساهم في إعالتنا، وكانت المدارس التي ارتدناها جيدة إلى حدّ ما. لم تكن ممتازة لكنها جيدة. على العكس منا، كانت عائلة جارنا التي تحوي سبعة إخوة، وكانت أوضاعهم المادية سيئة إلى حدّ كبير، ما دفع الأولاد إلى سوق العمل في وقت مبكر، مهملين بذلك دراستهم. كما كان تحصيلهم العلمي رديئاً والمدارس التي ارتادوها ذات مستوى متدنٍّ.

من ذكريات ذلك الزمن أيضاً، أن جارنا الآخر ولدت زوجته طفلاً مصاباً بالشلل. أذكر كيف كان ذلك المصاب حديث القرية لفترة لا بأس بها، وقد عانى جارنا في ما بعد الكثير من أجل تأمين العناية الصحية لطفله، ما حرم باقي أولاده من حياة أفضل وتعليم أفضل. وتحول الولد عالة على عائلته.

كنا مجتمعاً قروياً يمتلك الكثير من القيم التي ما زالت إلى اليوم تحظى بالكثير من التقدير. إنجاب الكثير من الأطفال يعد قيمة، الإهتمام بالمريض وإعالته قيمة أخرى، وكان كل شيء مغلف بقدسية دينية لا يمكن اختراقها، حيث المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وحيث يولد الطفل ويأتي برزقه معه، أما الطفل المريض فبركة وامتحان الله لعباده.

على العكس من تقاليدنا القروية تماماً، كان مجتمع المدينة. عندما انتقلت إلى بيروت، كان زميلي في العمل الإبن الوحيد في عائلته، وقد استفاد بسبب ذلك من الكثير من الإمتيازات. حصل على تعليم جيد ولم يكن بحاجة لأن يقتسم إرث والديه مع أحد، ما وفر عليه الكثير من العناء وحياة جيدة إلى حد ما.

في ما بعد، اكتشف زميلي في العمل أن زوجته حامل، وبيّنت الفحوص أن الجنين مصاب بالمرض. كان الخيار حينها صعباً، خصوصاً بالنسبة إلى شاب متدين. بعد الكثير من الأخذ والرد، تقرر إجهاض الجنين.

في فيلم كفرناحوم للمخرجة نادين لبكي، ينتهي الفيلم بمشهد محاكمة طفل لأهله الفقراء لأنهم أنجبوه. تعرض الفيلم بسبب ذلك إلى العديد من الإنتقادات، ولست هنا في وارد الدفاع عن فكرة الفيلم أو دحضها. من حق الجميع الإنجاب، أكانوا فقراء أم ميسورين، لكن على الجميع أيضاً احتساب احتمالات البقاء حتى لا يكون في بيتنا خمسة أطفال ورغيف خبز واحد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024