الجزائريون و"فتنة الرايات"

مروان أبي سمرا

الجمعة 2019/06/28
انقلب السحر على الساحر في الجزائر: نجح قائد الجيش قايد صالح في تنصيب نفسه في منصب الخائن والعدو الأول للشعب الجزائري. فهو ظنّ أنه وجد أخيراً، وبعد طول عناء، الوسيلة الناجعة للإيقاع بالجزائرين وثورتهم السلمية، ولتشتيت شملهم، وجعلهم جماعات متنافرة متناحرة. فعندما دان في خطابه رفع رايات غير الراية الوطنية (العلم الجزائري) بصفته "اختراقاً" خارجياً للمسيرات، وأعلن "إصدار أوامر صارمة لقوات الأمن للتصدي لكل من يحاول المساس بمشاعر الجزائريين"، لم يحتج الجزائريون للكثير من التفكير ليفهموا أن الراية المتهمة والمستهدفة هي علم الهوية الأمازيغية الذي يرفعه الأمازيغ في المظاهرات جنباً إلى جنب العلَم الجزائري.

علم الجزائريون أن كلام قايد صالح ما هو إلا مكيدة لتفريق صفوفهم والانقضاض عليهم. وربما ساور قايد صالح المحيطين به، أنه عمرو بن العاص هذا الزمان، وأن "فتنة الرايات" ستقسم ظهر الحراك الجزائري: إن قَبِل البعض بسحب الراية الأمازيغية تفرّقوا، وإن رفض البعض سحبها تفرّقوا!

والحق أن كثرة من الناشطين توجّسوا من هذه المكيدة وظن بعضهم أن قايد صالح سينجح وأن فتنة الرايات "ستقودنا الى اسوأ السيناريوهات لأنها تعيد شحن الراية الأمازيغية بمعانٍ غير ثقافية"، على ما كتب أحدهم. فيما كتب آخر: "كنا نضحك على قايد صالح ونقول إنه تلميذ رابع ابتدائي، فإذا به ثعلب". وكتب ثالث: "إننا ذاهبون إلى فخ تحويل الحراك إلى نعرات عرقية".

أمام هذه المخاوف، أخذ البعض يدعو إلى "تفويت الفرصة" والاكتفاء برفع الراية الوطنية وحدها، بينما أصرّ آخرون على أن الرد على قايد صالح يكون بالتمسك بالرايات الجزائرية كلها جنباً إلى جنب العلَم الوطني.

وبدأت قوى الأمن الجزائرية بالفعل، ملاحقة حاملي الراية الأمازيعية ونزعها بكثير الرعونة، بل اعتقلت بعض حامليها.

ورغم إقفال الطرق المؤدية إلى العاصمة ومنع القادمين من خارجها من الوصول إليها، لم يطل الوقت حتى استعادت الجزائر العاصمة مشهد نهار الجمع المهيب، ففاضت شوارعها وساحاتها بحشود المتظاهرين. وكان لافتاً وصول المواكب الحاشدة من القصبة وباب الواد، ودخولها شوارع وسط العاصمة، دخولا احتفالياً صاخباً وبهتافات التحدي للعصابة وقايدها...

وسرعان ما بددت الجموع الجزائرية الحاشدة والصاخبة والغاضبة، الشكوك والمخاوف كلها. وأعلن الجزائريون بصوت واحد: لم يعد هناك مجال للمواقف والمناطق الرمادية.

بصوت واحد دوّى الهتاف نفسه، بل دوّت الصرخة نفسها، ليس في شوارع العاصمة وسمائها وحدهما، بل في مدن الجزائر وولاياتها كلها، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها: "قبايلي عربي خاوة خاوة... والقايد صالح مع الخونة". وهناك بعض الاختلافات أو التنويعات الطفيفة. ففي البليدة ووهران كان الهتاف: "قبايل وعرب خاوة خاوة... والقايد صالح مع الخونة". وفي قسنطينة: "عربي وقبايلي خاوة خاوة... والقايد صالح مع الخونة". بينما غلب في العاصمة وتيزي أوزو: "قبايلي عربي خاوة خاوة... والقايد صالح مع الخونة".

وإلى جانب هذا الشعار كانت تبرز من وقت لآخر شعارات أخرى، متعددة لكنها متماثلة في استهدافها قايد صالح: "الڨايد صالح حاب يفرقنا.. رانا توحدنا باصيتو بينا"، "ما كانش جهوية يا الباندية (العصابات)"... "يا من عاش يا من عاش، والڨايد في الحراش، قبايلي عربي خاوة خاوة.. مكاش جهوية يا الخونة".. "اليد في اليد، نحّوا العصابة، وزيدوا القايد.. ما شباب ما قاري، ما شباب ما قاري، والقايد عنصري.. ما كاش الفتنة... القبايل خاوتنا يا قيادة الأركان، القبايل ماشي عديان".

ولإفهام قايد صالح، ومَن يصعب عليه تجرع كأس الفهم، لم يكتف العرب بالهتاف لإخائهم مع الأمازيغ، بل رفعوا أيضاً الرايات الأمازيغية علامة على أن مكيدة قايد صالح لن تنال من وحدتهم.

على الأرجح أن تلك الجمعة كانت محطة جديدة أساسية في الحراك الجزائري: أصبح قايد صالح وجهاً لوجه مع الشعب الجزائري بكل أطيافه، ليس بصفته مَن يطالبونه بتنفيذ مطالبهم، وإنما بصفته "العدو الخائن للشعب الجزائري ولوحدته الوطنية ولآماله في دولة ديموقراطية.. "والخائن لا يطالَب بشيء... سوى الرحيل في انتظار الحساب".

إنه نجاح باهر لقايد صالح الذي ظن أن "فتنة الرايات" ستجعل منه في آن معاً، عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان هذا الزمان!

وهكذا ظهر أن من يُحكمون قبضتهم على الجزائر باسم "الحفاظ على الوطن ووحدته"، هم أكثر من عَمِل ويعمَل على تمزيق الوحدة الوطنية وبعث الفرقة والنزاعات الوطنية والتفريط في الوطن.

قايد صالح ورهطه لم يعدموا وسيلة لبعث النزاعات الإثنية والجهوية في الجزائر، فجنّدوا الأبواق والجيوش الإلكترونية لشتم القبايل والأمازيغ والمزابيين والشاوية، باسم العرب حينًا، وباسم هذا أو ذاك أحياناً.

اتخذ قراراً بمنع رفع الرايات والأعلام المحلية والجهوية والإثنية في التظاهرات والأمكنة العامة، كالعلَم الأمازيغي وغيره، باسم الوحدة الوطنية التي يعمل ليل نهار مع جنرالاته على تمزيقها. هو يأمل أن يؤدي ذلك إلى انقسام الحراك، بين العرب والأمازيغ، والجماعات الأخرى، ليبقى وعصابته العسكرية متربعاً على عرش الجزائر، فتدخل في خراب اجتماعي وسياسي واقتصادي.

إنها الاستراتيجية نفسها التي استخدمها جنرالات الإجرام في "العشرية السوداء" (وقايد صالح كان منهم ومعهم)، إذ عملوا كل ما في وسعهم لتلبيس "الإرهاب الإسلامي" الذي ساهموا في صنعه واستعماله لباساً عربياً ضد القبايل والأمازيغ، بينما ألبسوا القبايل والأمازيغ لباساً استئصالياً معادياً للعرب.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024