حرب على أسماء الشهداء الفلسطينيين.. "بلا شوشرة اعلامية"

أدهم مناصرة

الأربعاء 2018/09/19
تشتعلُ معركة من نوع آخر بين الشعب الفلسطيني والإحتلال الإسرائيلي، أساسُها تسمية المدارس والشوارع والمرافق العامة في الضفة الغربية على أسماء الشهداء، لتأخذ منحى تصاعدياً يوماً بعد يوم خلال السنوات الخمس الأخيرة. غير أن المفارقة أن دولاً أوروبية بدت وكأنها طرفٌ فيها، بصفتها مُموِّلاً للعديد من المشاريع التنموية في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967.
آخر تجليات هذه المعركة، ظهر بحجة "التحريض الفلسطيني على الإرهاب"، بحسب تصريح نسبته وسائل إعلام إسرائيلية إلى وزير التعاون البلجيكي الكسندر دي كرو؛ إذ قال فيه إن بلاده تتجه إلى وقف تمويل بناء المدارس في مناطق السلطة الفلسطينية، "لأن وزارة التعليم الفلسطينية تخلد أسماء الإرهابيين، عبر إطلاقها على هذه المدارس"، على حد تعبيره.

والواقع أن موقف السلطة الفلسطينية اتسم بالحذر والارتباك في آن واحد. ذلك أنها حاولت عدم توجيه أي نقد إلى بلجيكا، من منطلق أنه ليس من المصلحة الفلسطينية توسيع دائرة الإشتباك السياسي، فكان الرد عبر وزارة التعليم الفلسطينية في بيان قالت فيه "إنه لم يصلها أي قرار بلجيكي من هذا النوع حتى اللحظة، وأنها طلبت من بروكسل توضيحاً بهذا الصدد".

وعندما توجهت "المدن" بسؤال إلى وزارتي التعليم والخارجية في رام الله، كان ردهما بكلمات مختصرة وحذرة: "لا نريد إثارة الموضوع في الإعلام.. نحن نتحدث مع البلجيكيين".
والحقيقة، أن رد السلطة يُخفي في طياته الكثير من التفاصيل لجدل وصراع وخلاف حاضرٌ منذ فترة مع الدول المانحة، وبعيداً من الإعلام، في ما يتعلق بتسميات من هذا القبيل.

أصل حكاية بلجيكا يعود إلى العام 2017، وتحديداً إلى قرية "بيت عوا" الواقعة في محافظة الخليل عندما أثارت قضية تسمية إحدى مدارسها الممولة من الوكالة البلجيكية للتنمية "Enable"، بإسم الشهيدة الفلسطينية دلال المغربي. ولما حان موعد الإفتتاح، غضبت الحكومة البلجيكية بشدة بسبب تصديق وزارة التعليم الفلسطينية على هذه التسمية؛ باعتبارها تحرجها مع اسرائيل من ناحية، ثم تخل بشروط التمويل القائمة على التنمية وإعداد جيل فلسطيني جديد بعيد من "الإرهاب".

وفي سياق تطورات الحكاية، أفادت مصادر "المدن" أن الحكومة البلجيكية تحدثت مع وزير التعليم الفلسطيني صبري صيدم، ثم رئيس الحكومة رامي الحمد الله، وصولاً إلى رئيس السلطة محمود عباس، بغية تغيير اسم المدرسة. ثم جاء الحل الفلسطيني بعد عيد الأضحى، بأن "تم تغيير الإسم".

وبالرغم من ذلك، تسربت في الإعلام العبري أنباء عن توجه بلجيكي لقطع التعامل المباشر مع الحكومة الفلسطينية، وهو الموقف الذي عزته المصادر إلى تسريبات وصلت إلى بروكسل وتفيد بأنه "صحيح تم تغيير اسم المدرسة، غير أن اسم دلال المغربي سيوضع لمدرستين أخريين في القرية نفسها، لكنهما ممولتان من الحكومة الفلسطينية".

ويبدو أن الأمر لم يعجب البلجيكيين في ظل الضغط الإسرائيلي المفروض عليهم، بحجة "أنهم بذلك يدعمون التحريض الفلسطيني على الإرهاب وتربية أجيال جديدة عليه"، فجاء التوجه البلجيكي بإلغاء تقديم أي دعم مباشر عبر الحكومة الفلسطينية.

مصدر دولي قال لـ"المدن" إن ثمة قراراً بلجيكياً داخلياً بخفض بروكسل دعمها السنوي المخصص لمشاريع تنموية في الأراضي الفلسطينية، من 30 مليون يورو إلى مقدار النصف، ليقتصر المبلغ المتبقي على التعامل المباشر مع المؤسسات الأهلية في الضفة الغربية من دون المرور عبر الحكومة الفلسطينية.

ويفيد المصدر بأن هناك تعليمات بلجيكية لقنصليتها في القدس، بعدم الحديث الاعلامي عن الموضوع نهائياً، ما يعني أنها تريد أن يسير الموضوع "بلا شوشرة". كما يشير الى أن بلجيكا ستخصص فقط مبلغ 15 مليون يورو لدعم مراكز التدريب المهني والتقني الخاصة، أو جهات محلية، من دون وساطة الحكومة التي ما عاد بإمكانها أن تكون مظلة لأي مشاريع تُنفذ.

ومهما كانت الأسباب، تُجمع جهات على إطلاع واسع على قضية مدرسة "بيت عوا" وغيرها من الحالات المماثلة، على أنه لا سياسة واضحة لدى السلطة الفلسطينية حيال الأمر، ولا آلية للتعامل مع هذه الحالات.. ثم، ما هو الحل الأمثل- فلسطينياً- في حال تلقت السلطة رسمياً القرار المذكور من بلجيكا أو غيرها من الدول المانحة؟

في الواقع، لا إجابة محددة ولا رؤية واضحة من الجانب الرسمي الفلسطيني، كما أنه لا اتفاق فلسطينياً على موقف أو خطاب واحد، رداً على ما يوصف "بالإبتزاز!".

قضية التسميات الوطنية لشوارع ومدارس في الضفة الغربية، والتي يتم انشاؤها بدعم دولي، تحولت كذلك بطريقة أو بأخرى لجدل فلسطيني داخلي.

وقد تجلت هذه الجدلية في مواقع التواصل الاجتماعي. فبينما ترى فئة من الفلسطينيين إنه من حق أي دولة أن تشترط عدم تسمية أي مدرسة أو منشأة بأسماء الشهداء، ما دامت هي من تمولها، وأنه إذا ما أردنا تسميتها كما نشاء فلتُموَّل بمال فلسطيني خالص، لترد عليها الغالبية الفلسطينية بالقول "إن الدعم الدولي جاء كتعهد من العالم لدعم المشروع السياسي وكتعويض عما يتعرض له الفلسطيني بسبب الإحتلال، الأمر الذي لا يجعله منّة، وأنه على أوروبا أن تلتزم بالخصوصية الفلسطينية ومعنى مصطلح شهيد بالنسبة إلينا، وأهمية احياء اسمه لتعزيز الحالة الوطنية ومعها الوعي الجمعي للأجيال المتعاقبة".

أجمعت المؤسسات الفلسطينية على رفض الابتزاز المالي الأوروبي. وأكدت لـ"المدن" أن كثيراً من الدول الأوروبية لم تكن تعترض على تسميات الشهداء حتى قبل خمس سنوات من الآن. لكن الامر تغير كلياً بعد ذلك، لأنها باتت تفرض قيوداً وشروطاً على التسميات الوطنية؛ ما يشكل دليلاً ملموساً على "أن الفلسطينيين أنهوا مرحلة، ودخلوا مرحلة جديدة، تقتضي ترويضهم من أجل حلول غير مُنصفة ولا ترتقي لمستوى تضحيات الشهداء الفلسطينيين على مر العقود".

كما رصدت "المدن" عدداً من التفاعلات الغاضبة في "تويتر" بسبب موقف بلجيكا في موضوع التسمية لمدرسة "بيت عوا". فكانت تغريدة لمواطن من الجزائر، كتب فيها: "يغضبون بسبب تسمية مدرسة على اسم عروس يافا-دلال المغربي. هي عقوبة جماعية في الوقت الذي تتدفق فيه الأموال على الكيان الصهيوني لتمويل جيشه الإجرامي".

ووسط ذلك، تستمر اسرائيل في دعايتها القائلة بأن العديد من منفذي العمليات الفردية ضد إسرائيليين، هم طلبة مدارس فلسطينية، في محاولة منها للزعم بأن المنهج التعليمي الفلسطيني، إضافة إلى تمجيد اسماء الشهداء، من العوامل المساهمة في "تحريضهم" كي ينفذوا عمليات ضد إسرائيليين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024