"قائد الظل" المتشظي في "لعبة العروش"

نذير رضا

الجمعة 2020/01/03
الذهول الذي رافق اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، لا يرتبط بموقعه العسكري والأمني فحسب، بل أيضاً بصورته الإعلامية والأساطير التي نُسجت حول شخصه في الإعلام العالمي، وإعلام "محور الممانعة" كـ"رجل ظل" و"شبح"، و"قائد الانتصارات في العراق وسوريا ولبنان".


وسليماني، الذي أحيط بهالة أمنية ترتبط بأربعة مجالات عسكرية حيوية لإيران، في العراق واليمن وسوريا ولبنان، لم تخرجه المقاربة الأميركية، الإعلامية والأمنية، منذ العام 2006 من الساحة العراقية، واعتبرتها ميدانيه الحيوي. فيها يحيك الخطط العسكرية الإيرانية، وفيها يثبت نفوذ طهران، ومنها يمدّ أذرع طهران في سوريا بالمساعدات العسكرية، وفيها، استطراداً، يتقلص نفوذها باغتياله على الأراضي العراقية.

وركونه الى الساحة العراقية، من الناحية الإعلامية، يعود الى البروفايل الشهير الذي أعدته مجلة "نيويوركر" في العام 2013 وحمل عنوان "قائد الظل" (The shadow commander)، وصولاً الى الكشف الأميركي في مجلة "فورين بوليسي" في شباط/فبراير الماضي عن أن واشنطن ارتكبت خطأ في العام 2007 عندما سنحت لها الفرصة باغتياله في العراق، ولم تنفذها.

غير أن الزاوية الرديفة للمقاربة المكانية، ترتبط بأسطرته في الإعلام العالمي، كـ"بطل"، ما يرفع أسهم "الإنجاز" الأميركي اليوم، بوصف ما قامت به واشنطن عملاً بطولياً، يشبه الى حد بعيد "إنجاز" القضاء على زعيم "داعش" أبو البكر البغدادي، وقبله زعيم "القاعدة" اسامة بن لادن. وهي بذلك، توجه رسالة بالغة التأثير ضمن نطاق الشرق الأوسط، يخفف الاحتقان المذهبي عليها في المنطقة، بالنظر الى ان الاغتيالات طاولت أعداءها من السنّة والشيعة على حد سواء، مع فارق جوهري ان "داعش" هو منظمة مكروهة عالمياً، بينما إيران دولة تحظى بتمثيل دبلوماسي، ولها علاقات مع معظم الدول، وتنشط المفاوضات على خطها.

وهذه النقطة بالذات، هي الحائل دون الرد الانتقامي، خلافاً للشائع منذ صباح اليوم عن التدهور السياسي والأمني في المنطقة. فالدول لا تتعاطى بمنطق الثأر، وتقيس الفرص والمشهد العام لاتخاذ قرار، سيكون على الأرجح، قراراً باستئناف التفاوض، ربطاً بتغريدة الرئيس الاميركي دونالد ترامب اليوم، إذ قال إن "إيران لم تكسب حرباً قط، ولم تخسر مفاوضات أبداً".

على أن المقاربة السياسية التي تدفع الى هذا الاعتقاد، تقود الى السؤال من زاوية أخرى: هل سيكون إبعاد واشنطن لسليماني عن دائرة التأثير العسكري في القرارات السياسية الإيرانية، يشبه إبعادها لجون بولتون عن دائرة التأثير في واشنطن، وهي بذلك تفتح مجالاً للتفاوض بعد اقصاء المتشددين من الطرفين عن فرص بلورة تسويات محتملة؟

يقترن هذا السؤال بالصورة الإعلامية التي حيكت حول سليماني. ففي بروفايل "نيويوركر"، بالتزامن مع فوز روحاني في الانتخابات الرئاسية في 2013، رجح معد التقرير أن "معركة داخلية ستدور في طهران، حيث يجب على روحاني أن يتجاوز المحافظين ومن بينهم سليماني لكي يبني علاقات جيدة مع الغرب"، ونقل عن عالِم الاجتماع في جامعة برنستون، كيفن هاريس، أن "الحاج قاسم والآخرين الذين لا يثقون في الغرب سيعتقدون أن أي تنازل يقدمونه للغرب هو دليل ضعف".

ولم يفوت سليماني فرصة خلال السنوات الماضية من دون أن يعزز هذا الاعتقاد في الغرب. ففي تصريحاته النارية ضد ترامب، لم ينقل قائد "فيلق القدس" مستوى التهديدات المتبادلة بين بلاده والولايات المتحدة، إلى مستوى شخصي، بل لعب دوراً مزدوجاً، عسكرياً وسياسياً، وأظهر مكانته المتنامية داخل النظام خلال السنوات الأخيرة. وظهر، بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، كدبلوماسي وصانع قرار ضمن إيران، مقروناً بصورة أوسع لدور مفترض، عبّر عنه أمام حشد في مدينة همدان غربي إيران، بعبارات موجهة لترامب، مثل "إننا أقرب اليكم مما تتصورون. تذكّروا بأن حسابكم معي ومع فيلق القدس، وليس كل القوات المسلحة" و"أنت ربما تبدأ حرباً، لكننا سننهيها".

صورتا سليماني، وإحداهما رسمها بنفسه، والثانية في الإعلام العالمي، رُسمت أيضاً في وسائل الإعلام الإيرانية والقريبة من طهران، الى حدود أسطرته، وإظاهر "رجل الظل" كقيادي عصيٍ على الانهزام أو الاغتيال. فقد خرج من إطار الشخصية الغامضة التي تتسرب صورها عبر مواقع التواصل، إلى كونه الحدث نفسه، بعد اختياره من قبل طهران لإعلان نهاية "داعش"، إثر معركة البوكمال في أقصى شرق سوريا عند الحدود العراقية.

ففي وسائل الإعلام الإيرانية، طُرِح سليماني، بالمواربة، كقوة جديدة متصلة ومنفصلة عن الحرس الثوري في وقت واحد. وراهنت طهران على تقديم سليماني بوصفه قائداً مكافحاً للإرهاب، في رد على تصنيف واشنطن له بـ"الارهابي". ورغم أسطرته، خصص سليماني إطلالاته الإعلامية منذ العام 2015، ليخرج من الغموض الذي كان يحيط به كشخصية أسطورية، وتم تكريسه بطلاً من قبل الميديا الإيرانية والخطاب الرسمي بوصفه القيادي الذي أنجز المعركة ضد "الإرهاب" وقضائه على تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، لدرجة وصفه خامنئي قبل ثلاثة أعوام بـ"الشهيد الحيّ" للثورة.

اليوم، خرج سليماني من نادي "الشهداء الأحياء". تعاظم دوره الميديوي، قاد الى رفع اغتياله الى مستوى الانجاز بالنسبة للولايات المتحدة، وللتصعيد بالنسبة لإيران التي لم تتحرك بهذا الزخم التهديدي في الأيام القليلة الماضية رداً على ضرب أذرعها في العراق، أو على ضرب قادة ميدانية بغارات إسرائيلية في سوريا في السنوات الماضية، أو حتى اغتيالات طاولت قيادات في الداخل السوري. فهو بالنسبة للايرانيين، ليس ركناً عسكرياً فحسب، ذلك ان استطلاعات الرأي خلال السنوات الثلاث الماضية، والتي نقلتها تقارير غربية، تشير الى أن 65٪ من الإيرانيين ينظرون إلى سليماني بشكل إيجابي للغاية.

أمام مشاعر الانتصار الاميركي ضد رجل هدد ترامب نفسه، في وقت سابق، وبعد الخسارة الإيرانية لرجل نُسِجَت حوله الروايات وأنتجت له أفلام لتهديد الخصوم، ستفتح الأحداث الجديدة كوّة للتفاوض، بعد اقصاء واشنطن للجناح العسكري النافذ المناهض للتسويات السياسية، تلك التي كان يضعها المرشد الأعلى في كفة الميزان المقابلة لكفة وزير الدبلوماسية محمد جواد ظريف. وباغتياله، انتهت "لعبة العروش" مع ترامب لصالح الرئيس الأميركي. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024