ثورة جورج عرضة للتشكيك.. منتحر أم شهيد؟

يارا نحلة

الأحد 2019/02/10

يصعب تخيّل ما كان يدور في رأس جورج زريق في اللحظة الأخيرة قبل أن يقرر إخفاد النار المشتعلة داخله بتقديم جسده وقوداً لهذه النار. هل فعلها ببطء ومنهجية المتمرّس الذي أعاد هذا السيناريو الروتيني في مخيلته عشرات المرّات فقتل بعقلانيته أي دافع غريزي للبقاء؟ أم أن الغضب تمكّن منه في لحظة يأس فاستحال غشاءً أعمى بصيرته عن رؤية أي سبب منطقي للبقاء؟ ثمّ هل فكّر بما سيفعله الشعب اللبناني بموته؟ هل تخيّل في نشوة الموت الغامرة أن فعل التمرّد ذاك سيشعل ثورةً؟

ولعلّ السؤال الأهم هو: من كان يستهدف جورج باحتجاجه القرباني، هل هو النظام اللبناني وحده؟ أم أن في فعله احتجاجاً على الشعب اللبناني نفسه، الذي يرفض إضرام النار بنظام يحرق يومياً كل مساعيه إلى العيش الكريم؟ لا شكّ أنه بإضرام النار بنفسه على مرأى من الشعب اللبناني، يتّخذ موقفاً يرفض التطبيع مع اليأس الذي أضحى مظهراً من مظاهر العيش في لبنان. إن إختيار النار وسيلةً للانتحار العلني هو تعبير عن أقصى درجات اليأس والتحدّي في الوقت عينه، إنه رمز الاستسلام والتضحية البطولية على حدّ سواء.

لكن هل يجعله ذلك شهيداً؟ تستحوذ هذه الإشكالية على القسط الأكبر من النقاش الدائر بين اللبنانيين حول واقعة جورج الذي تجلّى على السوشيال ميديا. وقد برز في هذا النقاش موقفان لا ثالث لهما: يتمثّل الأوّل بإعتبار جورج شهيداً على نحو لا يحتمل الشكّ، كما كتب الناشط محمد نصولي على جدار وزارة التربية. أما الثاني، فهو يدحض في فعل جورج أي بعدٍ يتعدّى الانتحار المرفوض بشتى الأشكال. وفي الخطابين، مغالطات كثيرة، فالأول يحمل رومانسية رخيصة بعيدة عن الواقع. أما الآخر، فينغمس في نقاش أخلاقي بغير مكانه أيضاً.

لاستيفاء شرط الشهادة، على فعل جورج أن يحدث صدمة قادرة على هزّ كيان من كان موجهاً إليهم هذا الاحتجاج؛ من سلطة وشعب. المرجح أن جورج كان يعي محدودية فعله وآثاره، فمن المستبعد أن يكون قد اعتقد بإمكانية إشعال ثورة بإحراق جسده، أو أنه ظنّ للحظة أن المسؤولين عن بؤسه سيتعظون من مهلكه التراجيدي، أو أنه سيتحوّل إلى "أبو عزيزي" اللبناني. وهنا لا بدّ من التساؤل عن المغزى السياسي لانتحار جورج. ما الذي كان يحتجّ ضدّه بالضبط؟ هل هو النظام اللبناني بكليّته، وهو نظام معقّد وشائك في فساده واضطهاده لدرجة أن الوسيلة الوحيدة للاحتجاج ضدّه هي بإبادة الذات؟

في تماهي اللبنانيين مع انتحار جورج تكمن المشكلة الكبيرة. فعوضاً عن توجيه أسهمنا ضدّ أركان النظام المسؤولة عن شقائنا، ينتقي معظمنا الخيار الأسهل، وهو خيار هروبي يعمد إلى حلّ الصراع بأسلوب مفرط في العاطفة والشفقة الذاتية. إن انغماس اللبنانيين في هذا الحزن الجماعي من شأنه تدعيم اليأس المعاش وليس استئصاله، إنها المقاومة السلبية على حساب النضال السياسي الحيوي. إنها عبثية الإنتحار في مقابل العنف الثوري الممنهج كوسيلةٍ للتغيير والاستمرار.

كما أن إنكار العامل السيكولوجي المرضي في انتحار جورج ووضعه في خانة الفعل الثوري البحت أمر غير واقعي هو الآخر. فهو يعبّر عن حاجتنا ورغبتنا إلى استغلاله كرمزٍ لشقائنا، وحتى الإتجار به، من دون أن نضطر نحن، كأفرادٍ أو جماعات، إلى عيش عواقب هذا الشقاء بشكلٍ ثوري يحمل تحدّياً وتضحية. وفي تنصيب جورج شهيداً إنتقائية أنانية تخدم مصالحنا ومآزقنا الشخصية والسياسية دون غيرها. فجورج ليس شهيداً إن لم تكن العاملات المنزليات، اللواتي يلقين بأجسادهن عن شرفات البنايات بشكلٍ أسبوعي، شهيدات أيضاً،. وهو ليس شهيداً إن لم يكن الشباب الذين ينتحرون بسكوتٍ كل يوم، لأسباب يتداخل فيها الشخصي مع السياسي والاقتصادي، شهداء هم الآخرون. جورج ليس شهيداً، لأن موته لن يوقظ المقاومة داخلنا.. لأننا لسنا أحياء.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024