مَنْ يَضع حدّاً لـ "قائمة الطعام الصيني"؟

عدنان نعوف

الأحد 2020/03/29
أصبحَ "نمَط الطعام" يُمثِّل جانباً أساسياً من الحرب الإعلامية بين الصين و"الناقمين عليها" مِمَّنْ يعتبرون أنها "قامت بتصدير فيروس كورونا إلى العالم".
والحال أن المسألة تتجاوز الاشمئزاز والغضَبْ والسخرية من مقاطع فيديو تُظهِر تناول حساء الخفافيش، أو طهي الكلاب، إلى مسائل أكبر ذات جوانب صحيّة وتسويقية واقتصادية.
وبعيداً من التعميمات الشائعة، فقد تَحَرّكَ الإعلام الغربي لفَهْمِ ملابسات أكل الحيوانات البريّة في ظروف غير مألوفة، باعتبارها السبب الرئيس لتفشّي فيروس كوفيد19، بحسب العديد من الخبراء.

ولم يَقِف الأمر عند دخول "الأسواق الرطبة" "wet markets" المعروفة ببيع الحيوانات الحيّة كالأسماك والطيور والخفافيش والأفاعي في بلدان شرقي وجنوب شرقي أسيا، والمُتّهمة بكونها البيئة الحاضنة لنشوء الأمراض الفتاكة. بل تعداه إلى إنجاز تحقيقات و إجراء مقابلات مع اختصاصيين صينيّين في مجال التغذية، لتقديم تفاصيل وإيضاحات مفيدة في هذا السياق. 

وبخلاف التفسير العربي والإسلامي (والذي يحمل وجهة نظر) للسلوك الغذائي الصيني، فإن تناول حيوانات غريبة كالقنافذ والجرذان، والتهام أجزاء "مقرفة منها"، وطبخها وهي حَيّة أحياناً، ليس عائداً إلى "الطباع القاسية لهذا الشعب" أو إلى "تحلله الأخلاقي والديني"، أو للرغبة بتوفير المال، وإنما هناك أسباب أخرى، منها البحث عن اللحوم المغذية التي توفرها البريّة. ولهذا الدافع جذوره أيضاً في الطب الشعبي الصيني والذي يرى في أكل تلك الكائنات تحفيزاً لجهاز المناعة. 

لكنّ أيَّ تفسيراتٍ - على وَجاهة ومنطقيّة بعضِها - لم تَعُد تستطيع تهدئة قلق العالم ككل، وإسكات المنتقدين باختلاف مواقعهم، فقد بدا أن هناك شعوراً عاماً بـ "نفاذ الصبر" من تجربة "الأسواق الرطبة" التي سَبقَ وخضعت لقيود جزئيّة فرَضتها السلطات الصينية عليها بعد تفشي مرض السارس عام 2003.

وجاءت جمعيات "الرفق بالحيوان" في مُقدمّة الجهات الساعية لتحديد أو تعديل "قائمة الطعام الصيني"، إذ أنها وجدت في انتشار فيروس كوفيد19 فرصةً لكي تضغط أكثر، داعيةً لحظر "تلك الأسواق وما يشابهها من مسالخ تزدحم بالحيوانات، وتمثّل مَصدراً للأوبئة". ووفقاً لوجهة النظر هذه، فلن يكون ذلك كافياً، لأن المشكلة لا تتعلق بالخفاش أو بأي نوع آخر (طالما أنّ فيروسات الإنفلونزا السابقة نشأت في الدجاج والخنازير)، وبالتالي "فالحلّ الوحيد هو إنهاء الطلب على لحم الحيوانات". 

أمامَ "خلاصة" كهذه، وظرفٌ استثنائي قلّما يتكرر، لم يَكُن مُنتِجو "البدائل" ليَقفوا متفرجين!. لذا فقد شهدنا استنفاراً من قبل شركات تصنيع اللحوم المُقلّدة (منتجات بروتين لها طعم ورائحة اللحم، لكنها مصنوعة من مكونات نباتية) للاستفادة من الموقف. وبرَزت شركتا Dao Foods International و Beyond Meat، كجهتيَن متحمّستين أعلنتا نيتهما التوسع في آسيا خلال الفترة القادمة، واستعدادهما لإطلاق مشاريع جديدة في الصين على وجه الخصوص. 

ورغمَ حِسابات وصعوبات تنفيذ ذلك في هذا البلد، فإن طموحات صانعي بدائل اللحوم بتحقيق أرباح من "هذا السوق الضخم الواعد" لم تأتِ من فراغ. ويُراهن هؤلاء على احتمال حظر الحكومة الصينية لبيع لحوم الحيوانات البرية على المدى البعيد، خوفاً من فيروس كورونا، "وهو ما سيجعل الصينيين أكثر تقبّلاً لتجريب اللحوم "المزيفة" القائمة على بروتين البازيلاء والصويا، إذا توفرت بأسعار أرخص".

غيرَ أنّ قراءَة "مستثمري الأزمات" للواقع تبدو مفرطة في التفاؤل، إذا ما عَلِمنا أنّ سكان شرقي آسيا لديهم "حُلول" في حال التوقف عن صيد حَيوانٍ يُشكّل طبقاً على موائدهم. ومثال ذلك تربية "جُرذ الخيزران" الذي استطاع الصينيون استيلادَه في الأسْر، وأصبحت مَزارِع إنتاج هذه الجرذان منتشرة بطريقة مشابهة لمَداجن الدجاج.

ومن جهة ثانية، تَصطدِم إمكانية تحويل الشّعور بـ "القرَف" إلى موقف ثابت يؤدي لخلق عادات غذائية واستهلاكية جديدة، بالشعبية المتزايدة لأنماط الأكل "غير التقليدي" في عالم الميديا الجديد. وبالنسبة لكثير من المتابعين فإن"التعلّم" يشكّل حافزاً ثانوياً مقارنةً بالفُضول لمشاهدة كل ما يحمل عناصر "الغرابة" و"الصَدمة". 

بهذا المعنى لن يكون مفاجئاً أن تَحصُدَ قناة طَبخ صيني على يوتيوب ملايين المتابعين (بينهم عَرَب يدخلون ليُعبّروا عن انزعاجهم). ولعلّ أوضح نموذج هنا هو الشيف وانغ كانغ؛ أحد أشهر الطهاة الصينيين المعروفين على مواقع الانترنت. وقدّمَ "كانغ" سلسلة فيديوهات تعليمية تضمنت أكلات من مكونات مَعروفة ومألوفة كالأسماك، أو مُستَهجَنة لدى فئات معينة من الجمهور، كالسَمَندل والضفادع وسواها.
 
ولم تَخلُ مسيرة هذا الطاهي من مَطبات وعراقيل نجَمَتْ عن الاحتجاج على بعض المَشاهد "القاسية"، كعَرض عملية ذبح الحيوان في بداية الفيديو، وهو ما استدعى من "كانغ" إصدار توضيحات، واتّباعِ تكتيكات بصَريّة استجابةً لمُطالبَات بإبداء "المزيد من الرحمة والإنسانية". 

أمّا أصحاب التعليقات المُشمئزّة ممّن يُبدُون استغرِابهم باستمرار "مِن قابلية أصحاب العيون المشدودة لالتهام أي كائن يمشي أو يزحف أو يطير"، فإنّهم وبدلاً من أن يؤثّروا سلباً، باتوا جزءاً لا غنى عنه في "اللعبة"!.   

واليوم، ومع دُخول أطراف إضافيّة معركةَ إعادة صياغة "الأطباق الصينية"، فلن يكون التكهّن بالنتائج سهلاً. وبغضِّ النظر عن "الطرَف المنتصر" فإنّ الجدل الحالي لا بُدّ أنه سيُحدِث تغييرات، سنلاحظها إما في مطبخ أهالي بلدان شرقي آسيا، أو عندَ مَن ينتقدهُم.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024