تستبدّ بي منامات بعينها

عباس ناصر

الثلاثاء 2021/01/05
ليست كوابيس، أقل من الكوابيس بدرجات. لكنها تبقى غير مريحة. تعبها في استباحتها مساحة راحتي المفترضة بشكل متكرر.

نعم تكرر نفسها، تعود المرة بعد الأخرى. هي نفسها. وإن عدّلت في بعض تفاصيل المشهد. أحياناً تتحداني في المنام ذاته. تقول لي غزوتك مرة أخرى. فلينقذك إريك فروم مما أنت فيه. 
في المنام، أحاور نفسي. أحاور المنام نفسه. كلام كثير يسيل في ذلك الوقت بين اللاوعي واللاوعي. 

صغيراً كنت في مناماتي أحلق في السماء، وكنت أسأل نفسي داخل المنام إن كان واقعاً أم حلماً.

وصغيراً أيضاً كنت أهبط بين الغيوم. لطالما هبطت من علٍ لكنني لم أصطدم بالأرض ولا مرة واحدة. وكنت في المنام نفسه أواسي نفسي بأنه منام، وسينتهي، وأنني سأستيقظ قبل أن أصل الأرض فأعفى من امتحان الموت.

ومراهقاً كنت أراني عارياً في فضاءات عامة. تتغير الفضاءات والمشترك فيها حرجي أمام الناس، ولتكرار هذا الحلم أيضاً، صرتُ أقل خجلاً. إذ كنت أقول لنفسي، لا بأس فهذا حلم، وسينتهي، فيستر ما ظهر مني.

ولاحقاً صارت لدي مهارة الطيران المحدود، وهذا مختلف عن التحليق عالياً الذي عشته في طفولتي. الطيران هنا هو أشبه بقفز خارق يسعني معه ان أنتقل من ضفة نهر التايمز مثلاً الى ضفته الأخرى. ولتكرار هذا المشهد أيضاً، صرتُ أحدث نفسي في كل مرة، أهذا واقع أم أنه مرة أخرى أضغاث أحلام.

كل هذا قد يبدو عاماً وطبيعياً وأُشبه به أمثالي من البشر. إلا أن واحداً من المنامات المتكررة أظنه خاصاً. كثيراً ما أرى في احلامي انني عدت الى مقاعد التعليم المدرسي. ولحد الآن ما زلت أجهل سر ذلك، أهو حنين للماضي، أم قلق اكاديمي أضمره مذ كنت صغيراً.

يبقى أن المنام المرافق لكل مراحل حياتي، هو الفرار من الرصاص. ولكم ان تتخيلوا مقدار الرصاص، والهروب من الموت في ذاكرة لبناني مثلي.

في أكثر أحلامي إذاً، كان سؤال الوجود موضوع منامي، ومادة نقاشه. هل سأموت؟ لا أريد أن أموت، كنت أقول راجياً في المنام نفسه. كان اللاوعي الذي يشبه الوعي ذكاءً، يرجو ان يكون ما أكابده مناماً كي لا أموت. ولم أمت بالفعل. كان المنام يحقق رجائي. النتيجة جيدة من حيث المبدأ، أقلها في معايير ذلك الوقت. إذ لم يعد للموت راهناً هوله كما كان. أو ربما زاد، ولم أفهم المعادلة. ليس هذا المهم الآن. المهم انني مررت على رجاء ان يكون المنام مناماً، ونجحت. نجحت مراراً. ونجحتُ في صور مختلفة.

دافعي للحديث. هو تلك الحالة البرزخية بين الحلم والواقع. اذ كيف يمكن أن أكون في منام وأعرف أنه منام. وهذه منزلة عليا من المعرفة. أما المنزلة الدنيا فأن أكون في المنام وأحتمل، مجرد احتمال، أنه منام، كأن أرجو ان أستيقظ لأتحاشى الموت، وأنا لستُ واثقاً إن هو منام أم حقيقة.

بكل الأحوال، للحالة الثانية آثارتها الخاصة. اذ ان جهلك بالقادم يتركك على مخيلة خصبة. وأما يقينك بالشيء فهو يحدك بالشيء نفسه. فيقتل متعة الترقب كما يقتل البعض رغبتك بمشاهدة الفيلم حين يبلغك بخاتمته وأنت لا تزال في بدايته.

تذهب المتعة اذاً حين تدرك أن الوهم، وهمٌ. الوهم سره في أنه لا يُكذّب. فإن كذب، لا يعود وهماً. يصير حقيقة. والحقيقة ليست جميلة، في أكثر الاحيان. ربما لذلك المنام هو حلم من الاحلام في مساحة منه. حلم تقفز فيه فوق كل شيء. تُحب من تشاء، وتُميت من تشاء، وتُحيي من تشاء. فيه صفات ألوهية مؤقتة، وإن مزيفة.

وإلى هذا وذاك. أي الرجاء بأنك لستَ في الواقع، بل في حلم. ورفض الحلم نفسه، لأنك تعرف انك في حلم. ثمة الضد لهذا وذاك. يحدث معي، يحدث كثيراً. أن أركن الى حلم أتمنى ألا ينتهي، وأتمنى أيضاً أن لا يكون مناماً. توقظك الحياة على صخبها، لتكتشف انه كان حلماً.

أشعر برغبة ماسة ان أنام من جديد. أن أستكمل الحلم، أن أطيله ما استطعت. أخفق طبعاً. فما مضى، انقضى. وأخذ معه إحساساً طيباً، سرعان ما يتحول إحباطاً.

سلطة الاحلام وسطوتها أنها حرة. لا تقيد. أما فهمها فهو المدخل لفهم أنفسنا. ليثبت أن الواقع ليس وحده الذي يستبدّ بنا، بل المنامات أيضاً. حتى لو أنها مساحة مفترضة للراحة، للتحرّر من الواقع، للأحلام.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024