..ومع الأسد احترق البلد: أقيموا صلاة الاستسقاء!

وليد بركسية

السبت 2020/10/10
من الصعب قليلاً التعامل مع الحرائق التي تمتد في الغابات السورية للمرة الثانية خلال أقل من شهر، بتوازن بعيد من السخرية المريرة التي لا تخلو من قليل من عدم المبالاة أو حتى الشماتة، لأن جميع المقاربات التي يمكن التفكير بها والمنتشرة في مواقع التواصل، تتقاطع لغوياً على الأقل مع المقاربات التي اعتمدت طوال عشر سنوات كانت فيها البلاد تمر بثورة شعبية تحولت إلى حرب مدمرة صدرت أكبر أزمة لجوء منذ الحرب العالمية الثانية.

وإن كان من المسلَّم به أن البلد الذي عرف يوماً باسم سوريا مازال قادراً على تصدير مزيد من الكوارث إلى أجل غير مسمى، فإن عبارات مثل سوريا تحترق أو صلوا من أجل سوريا وغيرها، تبدو فاقدة للمعنى في هذه اللحظة، لأن البلاد كانت تحترق منذ سنوات فيما لم تنفع الصلاة التي رفعت من أجلها قبل أن يمل المؤمنون والإنسانيون ويفقدوا الأمل، كثيراً. ولا يثير كل ذلك الحسرة في النفس بقدر تذكرها، عندما كان في إمكان السوريين في يوم من الأيام الشعور بوجود دولة تمتلك هيكلية ما بالحد الأدنى، ولو كانت تعاني مشاكل لا حصر لها، ينتمون إليها ويرجون منها القيام بحركة ما عند حدوث مشكلة أو كارثة.

وبالتوازي، تبدو قراءة العبارات نفسها الخارجة من أفواه أفراد تجاهلوا الحريق البشري الهائل في البلاد، فاقعةً في نفاقها ما يخلق إحساساً عفوياً بالشماتة، ليس من الحريق الذي يقتل أبرياء للأسف ويهدد التوازن البيئي واستمرار الحياة من أصلها في البلد المأزوم، بل من إحساس الآخرين بالخسارة، لأن تلك الخسارة تبدو وهمية ورومانسية لا أكثر، بتركيزها على فكرة خسارة البلد الجميل والذكريات، رغم أن ذلك البلد لم يقدم لمواطنيه طوال عقود سوى ذكريات من البؤس والعنف والدم.

ولعل أكثر ما يثير الأسف في المشهد اليوم، هو أن شعار "الأسد أو نحرق البلد" لم يتحقق بحرفيته، لأن رئيس النظام السوري بشار الأسد بقي في السلطة واحترق معه البلد، حرفياً هذه المرة! لو تحقق شطر واحد فقط من العبارة المستفزة التي قوبلت بها ثورة السوريين السلمية في أيامها الأولى، لكان الواقع ربما أخف وطئاً وأقل مدعاة للشعور الجمعي بالفاجعة. ولا طائل ربما من مناقشة هذه الاحتمالات التي لم تحدث، خصوصاً عندما يتعلق الموضوع جزئياً بالكوارث الطبيعية وتغير المناخ الذي كان واحداً من الأسباب غير المباشرة للثورة السورية، والذي يربط اليوم باشتعال الحرائق وامتدادها على نطاق واسع.

وهنا، يبقى من المثير للاهتمام حقاً، رؤية عجز النظام أمام كارثة من هذا الحجم، لا يستطيع تبرير وجودها بالعقوبات الخارجية على "الدولة السورية"، وإن كان قادراً على رمي تهم حصولها على مجهولين ومجرمين وأفراد الشعب من الفلاحين الذين يوصمون بصفات كالجهل على الشاشات الرسمية. ومن المثير أكثر أن النظام لم يعد يبالي بتقديم نفسه بصورة لائقة وجذابة أمام بيئته المحلية، كنظام متماسك، وهو ما يتجلى بوضوح في تعامله مع كارثة الحرائق مقارنة بالأزمات الاقتصادية الأخرى.

وكان الحل السحري الذي توصلت إليه السلطات هو اللجوء إلى الغيبيات وقدرات الآلهة في السماوات من أجل إطفاء الحرائق عبر "صلاة الاستسقاء"، ما خلق غضباً واسعاً بين الموالين عموماً، خصوصاً أن الدعوة لتلك الصلاة المشكوك بفعاليتها، خصصت يوم السبت من أجل الدعاء، وكأن الحرائق التي اندلعت الخميس ستنتظر بهدوء لمراقبة النتيجة. ورغم أن الاستياء تركز على وزارة الأوقاف التي دعت إلى هذه المبادرة، فإن وجوده لا يعبر عن التوتر المستمر بين الوزارة والسوريين، منذ طرح مشروع القانون 16 قبل سنوات، والذي أعطى الوزارة صلاحيات غير مسبوقة للتحكم بحياة السوريين من ناحية دينية، بل يعبر حصراً عن الغضب من عجز النظام أمام كل ما يحدث في البلاد وانهياره كسلطة غير قادرة على القيام بأي من واجباتها.

وفيما يجادل البعض بأن الثورة السورية التي قامت من أجل تغيير النظام السياسي في البلاد وتحقيق بعض الإصلاحات، فشلت في هدفها الأساسي، لكنها أدت إلى انهيار الدولة ومؤسساتها، لتصبح بالتالي مسؤولة بشكل مباشر على الخراب الحاصل اليوم رغم انحسارها نسبياً منذ دخول الروس إلى البلاد العام 2015 لدعم النظام عسكرياً، بطريقة أشبه لنظرية "تأثير الفراشة" (The Butterfly Effect). لكن تلك الفرضية رغم جاذبيتها لأنها تقدم سبباً واضحاً لكل ما يجري من أمور غير مفهومة، تبقى إلى حد ما غير واقعية، لأن مؤسسات الدولة كانت غير موجودة أصلاً وغير فعالة حتى في حال وجودها، أي أن تحول سوريا إلى نموذج الدولة الفاشلة لم يحدث بعد العام 2011، بل بات واضحاً للعيان فقط بعد ذلك التاريخ لكل من كان يعيش في حالة إنكار، خصوصاً عند الحديث عن حرائق الغابات التي يتحدث خبراء عن كونها مفتعلة من قبل شخصيات نافذة تعمل في مشاريع التحطيب والتفحيم والسياحة منذ سبعينيات القرن الماضي.

وبالتالي لو نشبت الحرائق نفسها في عالم مواز لم تحصل فيه الثورة السورية قبل عشر سنوات واستمر فيه النظام بحكمه المستقر، لما تغير شيء في النتيجة المؤسفة اليوم، ولكان هنالك حديث عن التقصير الرسمي وضرورة التعلم من التجربة للمستقبل ولتم تبرير الحرائق بأسباب خارجية مثل "العدو الصهيوني" الذي يستهدف الحياة والبشر والشجر أو غير ذلك من المصطلحات الجوفاء التي تتواجد في عالمنا الحقيقي هذا اليوم، حتى عند الكشف بوقاحة على الشاشات الرسمية بأن الطائرات المخصصة لإطفاء الحرائق عدّلت قبل سنوات كثيرة من قبل وزارة الدفاع كي تصبح مخصصة للأعمال القتالية، مثل رمي البراميل المتفجرة فوق رؤوس المدنيين أو قصف الأسلحة الكيماوية لتحقيق أكبر قدر ممكن من الإبادة.

ورغم أن النقاش العام يتركز اليوم على بأزمة الحرائق، فإن سوريا تشهد أزمات لا تنتهي في ملفات يومية كالمحروقات والكهرباء والخبز والاتصالات، تخلق نقاشات مماثلة تختلف فقط في ماهية الفرضيات التي تنشرها السلطة في خطابها حول تلك الأزمات من أجل التنصل من مسؤوليتها، للتحول السلطة ككل إلى مادة للتندر في مواقع التواصل. ويصبح السوريون بالتالي كأنهم يتابعون عروض سيرك خارج عن السيطرة، تبدو فيه السلطة هزيلة مهلهلة وعارية على الصعيد المدني والخدمي بقدر ما هي متوحشة على الصعيد الأمني.

وإن كان هنالك رعب من البطش الأمني يتوازى مع السخرية كـ"فعل انتحاري"، فإنه رعب لم يعد يسكت أصحابه ويلزمهم الصمت مثلما كان في سنوات الثمانينيات، بقدر ما هو رعب كوميدي بأبعاد عدمية فقد معها السوريون في مناطق سيطرة النظام الإحساس بقيمة الحياة التي يعتبروها باتت مرادفة لانتظار الموت لا أكثر. كما أنه رعب يسخر من نفسه بنفس الطريقة التي يسخر فيها من مسببه، في إدراك مذهل لتفاهة السلطة التي فقدت حتى القدرة على تكرار نفسها بنجاح.

وليس من المفاجئ بالتالي أن يصل سوريو الداخل إلى قناعة جماعية متأخرة بأنه لا طائل من جَلد الدولة وتقريعها على تقصيرها المتعمد، لأنها كيان غير موجود أصلاً، وتوجيه انتقاد لها يعني الاعتراف بوجودها، وهي التي توقفت عن الوجود بالفعل لصالح تحولها إلى كانتونات متصارعة إثنياً وطائفياً على المستوى السياسي العام، وإلى واجهة تمثل مصالح الآخرين، بداية من مصالح حلفائه الروس والإيرانيين على صعيد السياسة الخارجية، وصولاً لمصالح رجال الأعمال وقادة الميليشيات على صعيد السياسة الداخلية والقرارات الاقتصادية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024