استكشاف نقدي لـ"دهاء الشبكات الاجتماعية"

أحمد مغربي

الخميس 2019/01/17
يجمع د.غسان مراد، وهو مختص في ألسنيّات الكومبيوتر في الجامعة اللبنانية، في كتابه "دهاء الشبكات الاجتماعية وخبايا الذكاء الاصطناعي"، مقالات سبق أن نشرها في مجموعة من الصحف اللبنانية والعربية. بالأحرى، تشكّل تلك المقالات الغالبية العظمى من ذلك الكتاب الذي يتوزّع على 266 صفحة من القطع الوسط، وصدر في بيروت أخيراً عن دار "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر". 

ويثير ذلك سؤالاً فوريّاً عن سبب أو جدوى جمع مقالات في كتاب، خصوصاً في زمن الكومبيوتر الانترنت ومحركات البحث وأنواع القراءة للنصوص المتشابكة- المترابطة إلكترونيّاً وغيرها.

ولكن، ربما كان ذلك تحديداً موضع جدوى تجميع مقالات تدور حول موضوع رئيسي واحد هو "الشبكات الرقمية للتواصل الاجتماعي التي يديرها الذكاء الاصطناعي على شبكة الانترنت"، وتتناول مجموعة كبيرة من المحاور المتصلة بذلك العنوان. من يترك الكلام النظري ويتمرس في البحث عن المعلومات على الانترنت، يعرفه أن الوصول إلى نتيجة مماثلة لتلك المجموعة من المقالات، يقتضي عملاً دؤوباً وشاقاً ويستغرق وقتاً طويلاً، من دون أن يكون مضموناً الوصول إلى تلك النتيجة! والسبب في ذلك هو الانترنت والنصوص المترابطة إلكترونية وغزارة ما تعطيه محركات البحث من نتائج عن كل موضوع وتفصيل.

إذاً، الأرجح أن الكتاب يُسدي خدمة لمن يبحث عن معلومات وفيرة ومعمقة تكون متمركزة حول موضوع رئيسي وتشعبات متصلة به. ويزيد في جدوى تلك الخدمة، أن الكتاب بمجمله ليس مؤلّفاً ضخماً، بل لا يزيد عن 266 صفحة من القطع الوسط، وكذلك تتميّز أقسامه بأنها غير طويلة، لأن العادة الدارجة في الصحافة العربيّة حاضراً تقضي أن لا يزيد المقال عن ما يتراوح بين ألف و1500 كلمة.

وهناك ميزة ثانية تتمثّل في أنّ المقال الصحافي يشكّل نصاً مستقلاً يكتفي بذاته ولا يستند على شيء يسبقه أو يلحق به. وفي المقابل، عمد الكاتب إلى تجميع المقالات اللصيقة الصلة ببعضها بعضاً، ليصنع من كل مجموعة منها فصلاً مستقلاً عن موضوع معين. وتحافظ الفصول على استقلاليتها حتى عندما يجري تناول موضوع ما في أكثر من فصل.

وظهر ذلك في إعطاء فصلين، يتضمن كل منهما مجموعة من المقالات، لموضوع "الفجوة الرقميّة"  Digital Divide، الأول بعنوان "فجوة رقمية.. فجوة معرفية" (ص 27- ص 50) والثاني "الفجوة الرقميّة- المعرفيّة مدخل الى التطرّف والإرهاب" (ص 51- ص66). وتكرّر ذلك مع موضوع الذكاء الاصطناعي  الذي أُفرِدَ له فصلان هما "آلات الذكاء الاصطناعي في ميدان علوم الاجتماع" (ص 135- ص 152) و"الذكاء الاصطناعي.. نحو إنسانيّة جديدة" (ص 153- ص 189).

الاتصال ليس تواصلاً
الأرجح أنّ الخيطين اللذين يربطان متنوّع النصوص في كتاب "دهاء الشبكات..." هما الشبكات الرقمية للتواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي. واستباقاً، يتميّز الكتاب بتناوله الموضوعين كليهما ضمن رؤية نقدية جريئة، لا تخاف من كونها تخالف معظم الكتابات العربيّة عنهما. إذ ينظر الكتاب إلى "سوشيال ميديا" من زاوية التزامه الحرية الفردية، بما فيها الخصوصيّة الشخصيّة. وبداية، يشدّد على ضرورة تبديد الالتباس بين الاتصال والتواصل، وهو خطأ شائع خصوصاً في وسائل الاعلام العربية، مبيّناً أن التقنية تضمن الاتصال، لكن التواصل بين الأفراد يقتضي تفاعلاً أكثر عمقاً من مجرد تبادل الكلمات، فلا يكون الاتصال تواصلاً بالضرورة بل يصلح مجرد مدخل لذلك.
ويتعمق الفارق مع ملاحظة أن شطراً وازناً من الاتصال المتبادل في شبكات "سوشيال ميديا"، يجري عبر أشياء أقرب إلى الكليشيهات المكررة، ما يعني أنها بعيدة من التعمق في التواصل. ويعطي مثلاً واضحاً عن تحوّل الحريّة الفردية على الشبكات إلى مجرد رياء فاضح، في تنميط الصور التي يتبادلها الجمهور عبر "فايسبوك" و"آنستاغرام" و"فليكر" وغيرها.

إذ يطغى على تلك الصور ميل للظهور في أحوال سعيدة وحياة وردية، وهو ما يتنافى مع وقائع العيش اليومي لمعظم الجمهور. ويرى أن ذلك التمظهّر، وفق تعبيره، إنما يعبر عن خضوع الفرد إلى هيمنة نمط جماعي يملك قوّة الإرغام والتطويع، فكأن من لا ينصاع إلى المظهريّة الوردية، يخاطر بأن يعتبر في مكانة أدنى. في ذلك المعنى، تكون الحرية المفترضة في فضاء الانترنت قد تحوّلت إلى قيد ثقيل على حرية الفرد. 

وكذلك يهتم الكتاب بإبراز التهديد الذي تحمله الشبكات الاجتماعية للخصوصيّة الفردية، بما فيها البيانات الشخصية، وهو الذي ظهر بوضوح في الفضائح التي تخبّط فيها "فايسبوك"، أحد أبرز مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً فضيحة "كامبردج آناليتكا" التي برهنت عدم قدرة "فايسبوك" على حماية البيانات الخاصة بعشرات ملايين من مستخدميه، وكذلك الحال في التدخل الروسي الالكتروني المفترض في انتخابات الرئاسة الأميركية 2016، التي أثبتت أن الشبكات الاجتماعيّة يمكن تطويعها لتكون أداة للتلاعب بآراء الجمهور.

واستطراداً، يعني ذلك أنّ تلك الشبكات فشلت في أداء دور جرى الترويج له طويلاً، وهو المساهمة في تعزيز الجمهور العارف المتمكن من خياراته في الديموقراطية، بل تحوّلت مدخلاً إلى ما يعاكس ذلك كليّاً. 

لا ذكاء اصطناعياً... ليس بعد!
يستعيد كتاب "دهاء الشبكات..." مسيرة الذكاء الاصطناعي، خصوصاً منذ صعوده في خمسينات القرن العشرين على يد عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينغ (1912- 1954). ويبرز أن ذلك الذكاء ما زال بعيداً عن الحلم الذي راود تورينغ طويلاً وهو صنع آلات يكون لها ذكاء يحاكي ما يمتلكه البشر، خصوصاً لجهة القدرة على التفكير المستقل والتواصل التلقائي. ولأن اللغة تؤدي دوراً محورياً في التواصل، ينخرط الكتاب في شرح دورها في عصر الشبكات والآلات الذكيّة. ويذكر ذلك بأن مؤلّف الكتاب هو مختص في ألسنيّات الكومبيوتر، ما يضاعف اهتمامه في ذلك المنحى. 
وكذلك يذهب الى القول بأن الذكاء الاصطناعي لم يصل إلى مستوى الذكاء البشري، مبرهناً على ذلك بقصوره في إدراك اللغة والتمرس بها من جهة، وإلى أن معظم التقدم في تقنياته يعتمد على مفهوم "ملاحظة النمط" Pattern Recognition الذي لا يشكّل سوى جزء يسير من ذكاء العقل البشري.

وسواء صح ذلك الاستنتاج أم لا، لا يصعب اتصاله بنقاشات عالميّة واسعة عن الذكاء الاصطناعي، ما زال معظم العرب غائبين عنها، مكتفين بحال من الانبهار والاندهاش بالمنجزات التقنية للذكاء الاصطناعي وآلاته وبرامجه وأدواته. هل تنجح الأصوات النقدية في إخراج العقل العربي من حال الدهشة والانبهار، وكلاهما يعطل العقل، للوصول إلى الإدراك النقدي الواعي والمتفاعل مع معطيات الحضارة المعاصرة؟  الأرجح أنه سؤال محمّل بالحسرات!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024