فلسطيني، أحب لبنان، ولكن...

هاني موعد

الأحد 2020/05/10
لم أتوقع صدى لمنشور في "فايسبوك" أن يحمل معه كل هذا الغضب والقلق وعدم الشعور بالأمان. فبين مفرداته، مما حدث مع طارق أبو طه في مطار دبي وعدم السماح له بالدخول لطائرة الإجلاء، ومفردات التعميم الذي لم نعرف عنه إلا بعد تسريبه عبر مواقع التواصل الإجتماعي، تشكلت صدمة، ليس فقط بالنسبة إلي وللفلسطينيين من حاملي الوثيقة اللبنانية المغتربين في الخارج، إنما أيضاً للكثير من الصحافيين اللبنانيين الذين تواصلت معهم للتأكد من مصداقية ما قرأته عبر "فايسبوك"، فكان رد فعلهم الأول، النفي لعدم منطقيته... وفيما بعد ترددت كلمة "للأسف التعميم صحيح".

فمنذ تلك الليلة، وكل يوم تهاتفني والدتي من لبنان لتسألني: هل تغير القرار؟ هل سمحوا بعودة الفلسطينيين إلى لبنان؟.. يساورها القلق بأن تطول أزمة كورونا، وبالتالي عدم فتح مطار الشهيد رفيق الحريري الدولي أمام الرحلات الاعتيادية، مع سريان مفعول قرار الحكومة اللبنانية بعدم السماح بإجلاء الفلسطينيين من حاملي الوثيقة اللبنانية من بلدان الإغتراب الى بلد لجوئهم والذي لا يعرفون غيره... لبنان.

لست الوحيد الذي فقد عمله نتيجة جائحة كورونا، وما خلفته من أزمة اقتصادية عالمية، بدأت بإنهاء أموري في الأردن حيث أعمل منذ 6 سنوات، لأعود إلى صيدا التي أعرف شوارعها عن ظهر قلب، عاصمة الجنوب حيث تربّى والدي ودفن هناك، تلك المدينة التي أشعر فيها بالأمان، فيها الأهل، فيها الأنسباء من اللبنانيين، فيها ذكريات عائلة كامل، فيها الأصدقاء.. فهي الوطن الذي لا أعرف غيره ملجأً لي.

هذا القرار جعلني استذكر إحدى رحلاتي من عمّان إلى بيروت، خلال إجازة الصيف، على متن طيران الشرق الأوسط. جلس بجانبي رجل أعمال لبناني، كان في زيارة سريعه الى عمّان، وتجاذبنا أطراف الحديث حول الأزمة التي كان لبنان يعانيها آنذاك، أزمة تراكم النفايات. وأنهينا حديثنا مع إعلان كابتن الطائرة بدء الهبوط في مطار بيروت، لأقول له: "تبقى لبنان جميلة، على الرغم من هذا الوضع"، فابتسم ساخراً وقال: "اي نعم"، ونحن على مرآنا ذلك المشهد العبثي حول المطار، بين بيوت عشوائية فقيرة تقف خلفها على جبال خضراء، وأبنية حديثة تعكس رقي تلك المناطق. مشهد يختصر حال بلد عانى ما عانى من حروب وتدخلات إقليمية وأزمات متلاحقة لم تدعه يتنفس لعقود عشناها كفلسطينيين مع اللبنانيين لحظة بلحظة. سرت متوجهاً إلى موظف الجوازات، ووقفت في طابور "العرب والأجانب" المكتظ، فسألني أحدهم بعدما لمح وثيقة سفري المطبوع على غلافها "الجمهورية اللبنانية" وأرزة لبنان، وسمع بعض المفردات اللبنانية في لهجتي: "لماذا لا تقف في صف اللبنانيين؟ فهو فارغ تماماً؟"، فأجبته باختصار: "أنا فلسطيني"، وبقيت علامات الاستغراب ظاهرة على وجهه. فهو لا يعلم أننا بالفعل نحمل وثيقة سفر لبنانية تخولنا فقط الدخول إلى لبنان كأنها بطاقة إقامة فقط.

اقترب دوري، وكعادة الحشرية عندي، سألت أحد الضباط: "لماذا لا تدعوننا نقف هناك؟.. فهذه الوثيقة صادرة من بيروت.."، ليرد: "أتمنى ذلك، لكن هذا القرار عند الحكومة.. إذا تغير، قف أينما تشاء". وصل دوري، توجهت لختم وثيقتي التي باتت ذائعة الصيت في أرجاء المعمورة، لا تدخلني الى أي بلد من دون فيزا، والحصول على الفيزا يصبح عاماً بعد عام، أحد الأحلام صعبة المنال.

اليوم، هذه الوثيقة تحرمني من العودة إلى لبنان خلال أزمة كورونا. فلا وطن لجوء لي في هذه الأزمة، على الرغم من أن توصيفي الرسمي "لاجئ فلسطيني في لبنان" ومكتوب على صفحتها الأولى: "يرجى من موظفي حكومة الجمهورية اللبنانية ومن ممثليها في الخارج ومن السلطات الأجنبية المختصة أن يسمحوا لحامل هذه الوثيقة بحرية المرور، وأن يقدموا له كل ما يحتاج إليه من مساعدة و رعاية".

أعود بذاكرتي للعام 1995، عندما قررت الحكومة اللبنانية عدم إدخال الفلسطينيين من حاملي الوثائق اللبنانية إلى بلاد الأرز، بعد قرار معمر القذافي طرد الفلسطينيين من ليبيا. حينها، عانيت أنا وأسرتي ما عانيناه، بالذهاب كل مرة إلى الحدود اللبنانية السورية للعودة إلى لبنان، وعبثاً كانت محاولاتنا تلك. حينها، كنت في الإعدادية، ليترسخ عندي أنه لا وطن لي، حتى وطن اللجوء لا أستطيع اللجوء إليه.

أعلم أنني ساعود في ظل أزمة مالية خانقة في لبنان، وارتفاع نسب البطالة، إضافة إلى القوانين التي تمنع الفلسطيني من العمل في 73 مهنة، من بينها مهنة الصحافة التي أعمل فيها. لكن، في ظل أزمة عالمية خانقة وإغلاق كل المجالات الجوية وإيقاف السفر وإنهاء أعمالنا وإقاماتنا، أين يكون المستقر إذا لم يكن في لبنان؟

على الرغم من عدم نيلنا حقوقنا كلاجئين فيه، والتي تنص عليها مواثيق الأمم المتحدة لحقوق اللاجئين، لا أشعر بالغربة في لبنان. فهو البلد الذي لجأت اليه عائلتي منذ العام 1948.

أنا، كأي فلسطيني، أرفض التوطين. حقنا في العودة إلى فلسطين لن نتنازل عنه، بالإضافة إلى إدراكنا لواقع لبنان الديموغرافي. أما منح الفلسطينيين حقوقهم، فلا يرسخ التوطين، لأنهم في كل الأحوال مقيمون في لبنان، فلماذا لا يتم منحهم حقوقهم كلاجئين! نستذكر أن الفلسطينيين خرجوا بمظاهرات في لبنان مؤخراً، ليس للمطالبة بالتوطين، إنما للهجرة منه، رغم أن كثيرين منهم يقولون دائماً: "نحب لبنان.. لا نعرف إلا لبنان"، فالجيل الثالث والرابع من بعد النكبة لا يعرف غيره بالفعل. نعم، نحب لبنان، لكن حكوماته المتتالية تحرمنا تحويل هذا الحب إلى عطاء.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024