النظام السوري يراسل موسكو بشخصيات بلا وزن سياسي

وليد بركسية

الأحد 2020/05/10

ربما تكون الانتقادات التي وجهها عضو مجلس الشعب السوري والمحلل السياسي الدائم في قنوات النظام، خالد العبود، لروسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، مجرد طريقة لبث الطمأنينة في قلوب الموالين للنظام، بعدما كثر الحديث مؤخراً عن خلافات روسية سورية أفضت إلى رسم مخططات من موسكو لاستبدال رئيس النظام بشار الأسد قريباً ضمن رؤية جديدة لحل سياسي يجري الإعداد له في الكواليس.

لكن تلك الانتقادات، رغم كونها سابقة في تاريخ العلاقات الرسمية بين البلدين، تأتي من شخصية هامشية معدومة الوزن السياسي.

ويعطي المقالان اللذان كتبهما العبود، انطباعاً بأن ما جاء فيهما ليس تعبيراً عن رأي شخصي رغم التصريح بذلك، بقدر ما هو نشر علني لأوامر رسمية من جهات عليا، صادرة عن واحد من الاجنحة التي تكاثرت أخيراً في النظام السوري.

ورغم الهزلية التي تطغى على صاحبها بشكل يفتح باباً واسعاً للسخرية، فإن ما تضمنه المقالان يؤكدان على إيمان النظام السوري بوجود مساحة ضيقة له يستطيع فيها مناورة الإملاءات الروسية القاسية، وتحديداً ما يتعلق بالحليف الآخر، إيران وميليشياتها التي تنتشر في الأراضي السورية، والتي كانت نقطة مثيرة للجدل منذ العام 2015، من ناحية تباين الأهداف النهائية لكل من موسكو وطهران في سوريا رغم اجتماعهما على بعض التفاصيل الإجرائية المرحلية.

ولعل المقال الثاني بالتحديد، الذي رفض فيه العبود، السبت، الاعتذار عن التهديدات التي وجهها لبوتين بإشعال حرب ضد جنوده في حال غضب الأسد منه، والحديث عن الماكينة الإعلامية الروسية التي شنت هجمات على الأسد خلال الأسابيع الماضية، وفصلها، ولو بشكل لفظي عن الكرملين، والحديث عن كرامة الشعب السوري كسبب للغضب... يعطي هذا المقال انطباعاً إضافياً بأن سبب استياء النظام، هو علنية الضغوط الممارسة عليه من قبل الحليف الروسي، أمام البيئة الموالية، وكأن لا مشكلة في ممارسة الضغوط وإملاء الأوامر من قبل موسكو، طالما بقيت الأمور سرية، مع تلميع صورة القيادة الحكيمة في التصريحات الرسمية والإعلامية، مثلما كان عليه الحال خلال السنوات الأولى للتدخل الروسي في البلاد.



وقد يؤكد ذلك، حقيقة عدم تعبير النظام في السابق، حتى بين الموالين في مواقع التواصل، عن أي استياء من الممارسات الروسية المتتالية التي تعمدت إذلال الأسد وتحجيمه، من استدعائه إلى مبنى السفارة الروسية للقاء بوتين في شهر كانون الثاني/يناير الماضي، إلى المعاملة المهينة له في قاعدة حميميم عندما طلب منه عدم تجاوز الخط الأصفر المرسوم على الأرض العام 2017، وغيرها من وقائعَ ظهر فيها الأسد كرئيس بلدية أو موظف صغير أمام مرؤوسيه، والتي كانت رغم علنية تصويرها بكاميرات الإعلام، تترافق مع بيانات رسمية تتحدث عن العلاقات الوطيدة بين الجانبين وعن دور الأسد في البلاد وغيرها من العبارات الرسمية ذات الصلة، ما يعطي توازناً في الضغط بين الرسائل الروسية للأسد وتلك الرسائل التي يروجها الأسد لمواليه.

هذا التوازن كان مفقوداً في الفترة الأخيرة، بعد تعنت النظام في تقديم أي إصلاحات بسيطة تريدها روسيا منه، وتحديداً بعد ملف اللجنة الدستورية الذي عطّله النظام متعمداً، وخروج الأسد بتصريحات تبرأ فيها من وفده الذي شارك في تلك الاجتماعات.

ومع شعور النظام ربما بفائض القوة وإحساسه بجدوى المناورة للإبقاء على الوضع الراهن كما هو، لجأت موسكو إلى لي ذراعه باعتماد خيار التسريبات ضده، ما أثار استياء مضاداً بدوره تم تفريغه عبر مقالي العبود، اللذين أكدا على الشراكة الوثيقة مع القيادة الروسية بشرط كبح الإعلام الروسي عن النشر ضد الأسد شخصياً، والتي لا يمكن للبيئة الموالية تفهمها أو تقبلها مع الضخ الرسمي الدائم الذي خلق الوهم بأن "أبطال الجيش العربي السوري" هم سبب النصر "على الإرهاب" خلال السنوات الماضية.

والحال أن سوريا، بعد سيطرة النظام على مناطق واسعة وهدوء جبهات الحرب السابقة تدريجياً، وتحديداً بعد معركة حلب العام 2016، دخلت مرحلة صراع مجمد بانتظار الحل السياسي الذي يشكل الدولة السورية مع انتخابات العام 2021، يتم من خلالها تشذيب شكل النظام الأسدي عبر بعض الإصلاحات الشكلية التي تطالب بها روسيا تحديداً التي باتت عرابة المستقبل السوري عبر اتفاق أستانة عن واقع انهيار سلسلة مؤتمرات جنيف الخاصة بصياغة مستقبل البلاد.

ويعني ذلك أن موسكو التي تدخلت في الحرب السورية مباشرة العام 2015، كانت تسعى وراء أهداف ومصالح عديدة، تتشابك جميعها في نقطة بقاء النظام السوري. وبما أن النظام الأسدي مبني بشكل عضوي على شخصية الأسد نفسه، من المستحيل ربما استبدال الأسد، مثلما اقترحت المقالات الصحافية والتسريبات الإعلامية التي غضب منها العبود وجماهير الموالين، لأن ذلك الاستبدال يعني حتماً سقوط النظام، بالاسم على الأقل، وهي النقطة التي ينطلق منها النظام في مناوراته الأخيرة والتي تشكل عنصر التوازن في علاقاته مع روسيا تحديداً، التي تربطه بها اتفاقية كشف عنها العام 2016، وتعطي لروسيا الحق في استثمارات عسكرية واقتصادية واسعة في البلاد لفترة غير محددة.

ويمكن الاستدلال على ذلك، بقراءة بيان أصدرته السفارة الروسية في بيروت، أواخر نيسان/أبريل الماضي، للرد على شائعات استبدال الأسد حسب وصفها، والتي أتت بعد نشر مجلة "فورين أفيرز" الأميركية المرموقة مقالاً دعت فيه الى صفقة أميركية روسية في سوريا. وأكد البيان بشكل واضح عدم وجود صفقات سياسية، مع الولايات المتحدة وتركيا، لتقاسم النفوذ في المناطق السورية على حساب سيادة النظام. وأكملت بأن أصحاب تلك التحليلات "لا يجهلون حقيقة الموقف الروسي فحسب، بل لا يدركون طبيعة الوضع العالمي الجاري الذي يتطلب ترتيب الحوار المتساوي حول قضايا الأمن الدولي والاستقرار الإستراتيجي.لا يمكن ترتيب مثل هذا الحوار دون التمسك الثابت باحترام سيادة الدول" مضيفة أن روسيا "تعرف جيداً أهمية هذا المبدأ المستهدف دائماً من قبل أصحاب النظام الليبرالي" و"لا يمكن أن يتصور من يمتلك الحد الأدنى من العقل أن روسيا تتراجع عن استقلالية نهجها أو تتنازل عن التزامها بالشرعية الدولية أو تظهر الضعف أمام الغرب، وتتيح الفرصة لتقدم قوى الهيمنة وان ذلك من المستحيل أن يحصل".



وعليه فإن الإصلاحات المطلوبة قد تكون مشابهة لسياقات تاريخية في المنطقة. في لبنان على سبيل المثال إبان اتفاق الطائف مطلع تسعينيات القرن الماضي. وفي الحالة السورية اليوم، هنالك مؤشرات لتقاسم طائفي وإثني للبلاد، بشكل رسمي عبر نظام حكم فيدرالي جديد أو غير رسمي عبر تقاسم لمناطق النفوذ، وفيما سيتحدد ذلك على الأغلب لاحقاً، هنالك مؤشرات جارية بتغييرات بسيطة في البلاد، مثل نزع اسم الأسد عن بعض المنشآت العامة أو الصراع بين عائلة الأسد وعائلة مخلوف، الذي يشير بدوره إلى وجود إرادة بنزع السلطة الاقتصادية من يد الطائفة العلوية ونقلها إلى فئات موالية للنظام من الطائفة السنية لتحقيق نوع من التوازن المفقود في البلاد، ويتم ذلك عبر شخصية محورية هي أسماء الأسد، التي كادت التسريبات والتحليلات في الفترة الماضية، تجمع على كونها سبب الحملة الشرسة ضد رامي مخلوف، ويتقاطع ذلك مع انفتاح الدول العربية والملكيات الخليجية الثرية على النظام، من أجل تمويل إعادة الإعمار، في مقابل نفوذ تتحصل عليه في البيئة السنية ضد النفوذ الإيراني المتراكم في المنطقة.

ومن المبكر ربما، الجزم بأن الخلاف الروسي الإيراني هو جوهر المشكلة بين الكرملين ونظام الأسد، بناء على تصريحات العبود وحدها، أو ما قابلها من ردود مستنكرة من طرف شخصيات أخرى ضمن النظام تفضل الولاء لروسيا على حساب إيران، بوصفها ضامناً لعلمانية الدولة مقابل محاولات تشييعها أو أسلمتها، ويتصدر هذا التيار العضو الآخر في مجلس الشعب، نبيل صالح. فيما يتم إعلاء النزعة الوطنية (Nationalism) بين الموالين على الجانبين عموماً، والتي تأتي من تورط عاطفي ساذج بالانتماء للوطن، والذي يكمن فيه الشرخ الأكبر ضمن المجتمع السوري اليوم، ويمكن تلخيصه بالتساؤل عن معنى الانتماء للبلاد الممزقة بفعل الحرب الطويلة، إلى جانب الحقيقة الصارخة بأن الدولة التي عرفت في يوم ما باسم سوريا توقفت بالفعل عن الوجود، مع وجود أطراف خارجية متعددة فاعلة في إدارة البلاد وصناعة قراراتها السياسية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024