ماكرون يخالف صورة الرؤساء الفرنسيين: من الدفاع إلى الهجوم

حسن مراد

الأربعاء 2019/01/02
في اليوم الأخير من كل سنة، يكون الفرنسيون على موعد مع خطاب تلفزيوني لرئيس الجمهورية. تقليدٌ سنوي ارساه شارل ديغول عام 1960 وسار على خطاه كل من خلفه في هذا المنصب. عبر هذه الكلمة المتلفزة يتوجه الرئيس إلى الفرنسيين لتهنئتهم بالسنة الجديدة، كما تتضمن اطلالته شقاً سياسياً مخصص إما لمراجعة أحداث العام المنصرم أو للإعلان عن برنامج عمله للسنة المقبلة. 
في اطلالته ليل الاثنين، بدا واضحاً أن ايمانويل ماكرون انتقل من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، حيث وجه رسائل في عدة اتجاهات حملت رداً على حركة السترات الصفراء من دون أن يذكرها بالاسم. في هذا الإطار انتقد الرئيس الفرنسي وسائل التواصل الاجتماعي، المنبر الأبرز للحركة، قائلاً إنه مع سرعة انتشار الخبر والتعليق عليه بشكل فوري وغير مدروس في فضاء مفتوح، تكونت صورة مغلوطة عن اندثار الدولة الاجتماعية في فرنسا. 

وأبدى الرئيس الفرنسي تفهمه لضيق صدر الفرنسيين دون أن يبعث بإشارات توحي بتغيير محتمل في توجهاته. فالإصلاحات الحكومية، وفقا لماكرون، تسلك الطريق السليم مضيفا أن نفاذ صبر الفرنسيين، الذي يتفهمه، لن يدفعه للتراجع كما لن يتهاون في ضبط النظام العام. وفي رد غير مباشر على مطالبته بالاستقالة، تساءل بأي صفة يدعي البعض الحديث باسم الشعب الذي يقول كلمته عند كل استحقاق انتخابي؟ كما تطرق للحوار الوطني المزمع عقده بداية العام وجدد تمسكه بالشراكة الاوروبية.

في الشكل، لم يحد ماكرون عن الأعراف التي تحكم هذه الإطلالة السنوية: كانت كلمة مسجلة من مكتبه في الإليزيه وخلفه العلَمان الفرنسي والأوروبي. إلا أنه يمكن تسجيل ملاحظتين اثنتين على صعيد الصورة: فقد تفادى تكرار عدد من الأخطاء التي وقع بها في اطلالات سابقة، مثل سوء الإضاءة أو الظهور بوجه متعب، كما ألقى كلمته واقفاً من دون منبر وهو ما لم يسبقه عليه أيٌ من أسلافه الذين إما كانوا جالسين خلف مكتب أو واقفين وراء منبر.

في المحصلة، أراد ماكرون أن يستعيد الفرنسيون ثقتهم في السيستم الذي يحكمهم، من دون أن ينفي وعيه للصعوبات التي تتخبط فيها فرنسا مستدركاً أن الجهود والإصلاحات الحكومية ستسمح بتخطيها.  

وكما كان متوقعاً تباينت ردود الأفعال على معايدة ماكرون في ترجمة للاصطفاف السياسي، ردود أتت على شكل تغريدات. 

فوزير الاقتصاد برونو لو مير وصف اطلالة الرئيس الفرنسي بالشجاعة والنيرة، فيما اعتبرها آلان جوبيه، رئيس الوزراء السابق، بالممتازة شكلاً ومضموناً.

إلا أن اللافت كانت مواقف خصوم ماكرون إذ بدا واضحاً أن ما علق في أذهانهم كان ثباته على سياسته وهو ما أجمعت عليه هذه التغريدات رغم تنوع مضمونها وأصحابها.
مارين لوبان وصفته بالمحتال الذي يهوى إشعال الحرائق.

من جهته اعتبر نيكولا دوبونت-آيجنان، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية وذو التوجه اليميني المتطرف، أن ماكرون سيكون أسوأ مما كان عليه في العام المنصرم. أما الناطقة الرسمية باسم حزب الجمهوريين فاعتبرت أنه كان أقرب لمرشح انتخابي منه لرجل الدولة. 

على خط اليسار، وصف المرشح السابق للانتخابات الرئاسية جان لوك ميلانشون الرئيس الفرنسي بأحد "سكان القمر" فيما سخر الناطق الرسمي باسم الحزب الاشتراكي من الخطاب بالقول أنه يدعونا لحوار على أساس برنامج اختاره سلفاً ولن يحيد عنه.

 كُرست هذه الإطلالة لتناول لحظة ظرفية دون أن تعكس في مضمونها أي تحول سياسي ملموس، وكذلك دون ترك أي بصمة مميزة على مستوى الشكل. لذا من المرجح ألا يحتل هذا الخطاب مكانة مميزة في أرشيف المعايدات الرئاسية.

لكن في سنوات سابقة آثر عدد من أسلاف ماكرون تحدي القواعد التي حكمت هذا الموعد التلفزيوني، ما عكس نوعاً من التمايز عن بعضهم البعض، تمايز حمل في طياته رسائل سياسية لا زالت عالقة في أذهان الفرنسيين.

ففي معايدته الأولى عام 1974، أراد فاليري جيسكار ديستان أن يكسر قدر الإمكان الحواجز التي تفصله عن الفرنسيين؛ فبدلاً من أن يطل من مكتبه الرئاسي الذي يرمز إلى المنصب الذي يتولاه، ظهر في ديكور منزلي خاصة لناحية المدفأة.

في العام التالي، حافظ جيسكار على نفس الديكور، إلا أنه طلب من زوجته أن تنضم إليه وكانت المرة الأولى والأخيرة التي تكون فيها السيدة الأولى إلى جانب زوجها في هذه الاطلالة. في كلا المعايدتين،أراد أن يُشعر الفرنسيين أن من يخاطبهم هو فاليري جيسكار ديستان وليس رئيس الجمهورية.

لم يكن جيسكار الرئيس الوحيد الذي سعى إلى التقرب من الفرنسيين من خلال هذه الإطلالة، كذلك فعل نيكولا ساركوزي. بدلاً من الكلمة المسجلة، اختار نهاية العام 2007 أن تكون معايدته مباشرة على الهواء وذلك للمرة الوحيدة في تاريخ معايدات الرؤساء. إطلالة ساركوزي على هذا النحو بعيداً عن أي مؤثرات فنية حملت في طياتها رسالة بأن الرئيس يتحلى بالشجاعة كما يتصرف على طبيعته دون تصنع في محاولة لتجديد ثقة الفرنسيين به.

وبخلاف ساركوزي وجيسكار، أراد جاك شيراك أن تكون معايدته نهاية العام 1997 مناسبةً لتكريس سلطته وصورته الرئاسية. ففي منتصف ذاك العام خسر اليمين الفرنسي الانتخابات النيابية ما أجبر شيراك على تكليف الاشتراكي ليونيل جوسبان تشكيل الحكومة. لهذا الغرض، اختار شيراك أن يتوجه بمعايدته وهو واقف خلف منبر وليس جالساً كما درجت العادة. فُسرت هذه الحركة على أن شيراك متأهب لأي كباش مع تلك الحكومة اليسارية وأنه لن يكون مهادناً على الإطلاق.

من جانب آخر، درجت العادة أن يلقي الرئيس معايدته من قصر الإليزيه أياً يكن الديكور المعتمد. الوحيد الذي شذ عن هذه القاعدة كان فرنسوا ميتران نهاية العام 1988 إذ ألقى معايدته من مدينة ستراسبورغ. مجرد الإعلان عن تواجد ميتران في ستراسبورغ في ذاك اليوم حمل رسالة دالة على انحيازه لصالح الشراكة الأوروبية عبر دعمه لهذه المدينة في معركتها آنذاك لاستضافة مقر البرلمان الأوروبي. 

وإذا طبع بعض الرؤساء السابقين معايداتهم السنوية لناحية الشكل، فإن خطابات علقت في أذهان الفرنسيين لمضمونها. فنهاية العام 1994 توجب على ميتران أن يلقي معايداته الأخيرة بعدما أتم ولايتين رئاسيتين، وحيث أنه لم يسبق أن أتم رئيس من قبله ولايتين كاملتين، ترقب الفرنسيون ما سيتضمنه خطابه الأخير. كان المرض قد نال كثيراً من صحة ميتران، لذا اختار أن يودع الفرنسيين بوجدانية قائلاً إنه سيبقى إلى جانبهم من أي مكان كان، مضيفاً أنه يؤمن "بقوة الروح"، جملة لا زالت عالقة في الأذهان لهذا الرئيس الذي ترأس دولة علمانية. 

بخلاف ميتران، صاغ شيراك معايدته الأخيرة على شكل خلاصة لمسيرته سياسية، فهذا الرئيس الذي أعاد الاعتبار لقيم ومبادئ فرنسا، اختار أن يقدم يومها للفرنسيين "عصارة عمره" لا سيما لناحية التشديد على نبذ التطرف. 

 يقول خبراء الإعلام والدعاية أن مزاج الفرنسيين نهاية العام يكون أفضل من باقي أيام السنة فينظرون للمستقبل بتفاؤل أكبر، ما قد يفسر المثابرة على هذا التقليد التلفزيوني طوال 58 عاماً.

من الواضح أنه بعد هذه السنة الصاخبة أراد ماكرون الاستفادة، كما أسلافه، من حالة الإيجابية التي يعيشها الشارع الفرنسي في هذه الفترة لمحاولة رفع شعبيته قبل العبور إلى العام الجديد، عامٌ يختزن استحقاقات سياسية وانتخابية قد تتضاعف معها الغيوم المتلبدة في سماء ماكرون.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024