قاسم مرواني
- جميل، لا يزعجني ويفعل كل ما أطلبه منه.
- أرى أنكما تليقان ببعضكما، لم لا تخرجان سوياً؟
- أتمنى، لكن أعتقد أن عامر مرتبط.
هذا كان مجرد مزاح يجري طوال الوقت في كل الشركات، لكن ليس بالنسبة له، فهو يرى الآن أن ليلى تود حقاً الخروج معه وأن زميله يوافقها الرأي، وسيحاول أن يصحح لها مباشرة "لا لست مرتبطاً". سيمضي وقتاً ليس بقليل، حتى يكتشف أنها كانت مجرد مزحة.
المشكلة هي أنه لم يكتسب مهارات التواصل في صغره، وهو الآن في بدايات العشرينات من عمره، في محاولات مستميتة للتأقلم مع المجتمع، محاولات مبنية على التقليد، يراقب الآخرين، يسجل تصرفاتهم وردات فعلهم ثم يحاول تقليدها، بطريقة رديئة ومصطنعة في معظم الأحيان. بينما يتنزه برفقة صديقه، يلتقيان بشخص لا يعرفه، يقترب منه صديقه ويقول: "كيف حالك؟ عرفت أنك كنت مريضاً، كيف أصبحت؟" ثم يتابع أسئلته مستفسراً عن المرض وماذا قال الأطباء وحالته الآن متمنياً له الشفاء.
لقد سجل كل ذلك، من الآن فصاعداً حين يلتقي بشخص مريض سيتبع الأسلوب نفسه وسيستعمل إلى حد كبير العبارات نفسها، ليس أنه لا يتعاطف مع الآخرين، بل لديه قدر كبير من التعاطف إلا أنه لا يجيد التعبير عن هذا التعاطف ولا عن أي شعور آخر، كما يجد أن سؤال الناس عن مرضهم وتمني الشفاء العاجل لهم لن يغير شيئاً من الواقع.
سجل على مدى أعوام أساليب تعبير يقلد بها الآخرين. أحياناً سيختلط عليه الأمر، حين لا يسعه الوقت للتفكير واستحضار الجملة المناسبة، كأن يقول لرجل تزوج حديثاً، الحمدلله على سلامتك.
ليس كل المتوحدين متشابهين، بل هناك طيف من التوحد تختلف درجاته وأعراضه من متوحد إلى آخر وعلى عكس ما يعتقده الناس، يدور في داخل كل منهم عالم كامل وثري، مليء بالأفكار والمشاعر والأحاسيس والحساسية المفرطة، شعور بالوحدة الشديدة، يرون العالم بطريقة مختلفة كلياً، يلتقطون ما يسهو عنه الآخرون ويسهون عما يلتقطه غيرهم، يشعرون أن الحياة غير عادلة، خصوصاً مع الحيوانات، إلا أن كل ذلك يبقى عالقاً في داخلهم، عاجزين عن التعبير عنه.
خلال رحلته الشاقة لإيجاد وسيلته الخاصة بالتعبير والتواصل، تعلم الرسم، يلحّ عليه صديقه بين حين وآخر أن يقيم معرضاً لرسوماته، إلا أنه يكتفي بتصويرها ونشرها على مواقع التواصل، من يراها، يعتقد أنها تخص شخصاً آخر، لا يمكن لهذا الشاب الانطوائي، الغريب الأطوار، البارد، أن يرسم بهذه الطريقة المفعمة بالمشاعر والأحاسيس. يقول الطبيب هانس أسبرجر عن ذلك: "للنجاح في العلوم أو الفن، فإن القليل من التوحد أمر ضروري"، يوافقه الدكتور تمبل غراندين بالقول: "من دون المتوحدين، لكان البشر لا زالوا يعيشون في الكهوف".
أجمل ما حدث معه كان وصول رسالة من الفتاة التي سخر منها في السهرة، تبدي إعجابها برسوماته وتدعوه إلى فنجان قهوة. أشد ما يسعده هو إقامة رابط أو تواصل مع أحدهم، يجد حينها متلقّ لأفكاره ومشاعره، يتعلق بها حدّ الموت.
المشكلة أن استراتيجية التقليد التي يتبعها عادة لا تنجح في العلاقات. لقد رأى صديقه كيف يتعامل مع رجل مريض، رأى زميله كيف يمزح مع زميلته، لكنه لم يسبق أن رأى أحداً يدلل حبيبته في السرير أو يمارس معها الجنس، سيمضي بعض الوقت، قبل أن يسعدا سوياً، إلا أنه في النهاية، بفعل ذكائه الحاد وقدرته على التأقلم، ينجح، سيشعر بالسعادة وبالحب الذي سيتعلم كيف يعبر لحبيبته عنه، لن يكون ذلك سهلاً لكنه سينجح.