باسيل.. يا فاتح حصون خيبر

بتول خليل

الأربعاء 2020/01/29
في رائعة محمود درويش "مديح الظل العالي"، التي كتبها عقب الصمود الأسطوري لمنظمة التحرير الفلسطينية إبان حصار بيروت العام 1982، رفع الشاعر فيها، ياسر عرفات، إلى ما فوق مصاف البشر، مخاطباً إياه بالقول: "كلّ أسئلة الوجود وراء ظلك مهزلة، والكون دفترك الصغير، وأنت خالقه، فدوّن فيه فردوس البداية يا أبي، أو لا تدون، أنت..أنت المسألة"، ليعود في مقطع آخر ويصبّ جامّ غضبه وحنقه على زعماء العرب الذين تفرجوا حينها على مجزرة "صبرا وشاتيلا" قائلاً فيهم: "سقط القناع عن القناع، عرب أطاعوا رومهم، عرب وباعوا روحهم، عرب وضاعوا، سقط القناع".


ورغم أنّ هناك قاعدة في الشعر، تجيز للشاعر ما لا يجوز لغيره، في المبالغة واللعب على الكلام، وتبيح المديح وصبّ الهيام، إلا أنّ تخليد الأحداث والأشخاص، شعراً، يستمدّ قوّته وقيمته ومعناه من هول الحدث وعظمته، ومن مدى شكيمته ومآثر البطولة والتضحية التي هي من خصال الرجل، التي يتم التغنّي بها.

ولا إن شُغِف محمود درويش حُبّاً بأبو عمار، وفُنيت روحه عليه صبابة، كونه يراه مثالاً للتضحية والصلابة وقوة البأس والبطولة والنضال، كرجل وهب حياته لقضيته ووطنه، قد يجعل من المفهوم والمبرر لدرويش، الذي يُعتبر من أهمّ شعراء العصر الحديث، أن يُخلّد زعيمه ومآثره، لما خطتّه أنامله من كلمات.

وعليه، وبفمٍ فاغر ووجه تملأه الدهشة، مع اتساع في البؤبؤين وتسمُّر في حدقة العين، مع سيل جارف من تلاطم الأفكار وعدم التصديق، طالعتنا تغريدة السيدة مي خريش، نائبة رئيس "التيار الوطني الحر" للشؤون السياسية، التي افتقدت فيها رئيسها الذي أسقطته الثورة عن كرسي وزارة الخارجية، والعاطل عن العمل حالياً، قائلة: "جبران باسيل..ستفتقد القمّة العربية لبسالتك في الدفاع عن فلسطين..هل سنجد من بين العرب من سيتجرّأ على قول الحقيقة ومواجهة صفقة القرن"، معتبرة في تغريدة أخرى أنّ "ثورة 17 تشرين، وما استتبعها من مطالبات من إسقاط الرئيس ميشال عون وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، مرتبطة بصفقة العار".

الاختلاجات الناجمة عن عدم التصديق رافقتنا ونحن نعيد قراءة هذه التغريدة، مرة تلو الأخرى، رغم "الانبهار" بمستوى "البراعة" التي أبرزتها السيدة خريش في الربط بين باسيل والبسالة، وهو أمر يُشهد لها، إذ يُظهر مدى "نبوغها" و"حدّة ذكائها" النادرين، إلا أنهما في القياس لا يتوازيا بأي حال مع إنجازات "بطلنا" ووزير خارجيتنا "المخلوع" وعبقريته الفذّة، وشجاعته منقطعة النظير، وقيمة رأيه ورفعة مقامه وعظمة أمجاده. وللوهلة الأولى يُخيّل إلينا أن الشخصية المعنية هنا، ربما تكون الزعيم جمال عبد الناصر أو المهاتما غاندي أو لعله نيلسون مانديلا أو ربما مارتن لوثر كينغ.

فكّم العبث بالعقل كافية لجعلنا نهرول إلى أقرب معالج نفسي أو مصحّة أمراض عقلية. ولا نُلام على شكّنا في رجاحة عقلنا أو سلامة تفكيرنا، والالتباس الذي يقرع في نفوسنا كأجراس الكنائس صبيحة أحدٍ مشمس. إذ إن غسيل الدماغ وتجفيفه وكيّه ثم طيّه وترتيبه ودسّه جانباً في زوايا العقل، يجعل من الملّح على أنفسنا أن نسأل، هل من تتكلمين عنه يا حضرة "النائبة" هو باسيلنا نفسه؟ أهو ذاته الذي عهدناه ما وضع إصبعه في شيء إلا وأفسده؟

أهو باسيلنا الذي أضحك علينا الدنيا وجعلنا مسخرة بين الأمم؟ أهو باسيل الذي أفسد ودّنا مع كلّ الدول العربية؟ وهل هو صاحب الفصاحة والشجاعة والبلاغة والدبلوماسية التي أذهلت العرب يوم وقف وحيداً في وجوههم مطالباً بإعادة السفّاح بشار الأسد إلى حضن الجامعة العربية قائلاً "ألم يحن الوقت لعودة الإبن المبعد والمصالحة العربية-العربية؟ أم علينا انتظار الأضواء الخضر من كل حدب وصوب؟".

هل هو ذاته صاحب العبقرية الدبلوماسية التي جعلت كلّ أشقائنا العرب ينبذوننا ويديرون ظهورهم لنا، ونحن نحتضر اقتصادياً وفي أمسّ الحاجة إليهم؟ ناهيك عن لقبه الذي اكتسبه بجدارة مذاك الحين، كسفير لبشار الأسد بدلاً أن يكون وزيراً لخارجية لبنان. وهل هو ذاته الذي ما ذهب إلى بلد أوروبي وعربي، إلا وأغلقت الأبواب في وجهه؟ بعدما كرّس فكرة أن حكومة لبنان ودبلوماستها موصولة بإيران ومؤتمرة من "حزب الله"؟

هل هو ذاته باسيل معبود الجماهير وصاحب الترند العالمي "هيلا هيلا هو"؟ وهل هو نفسه الموصوف بـ"العنصري" و"الطائفي"، الذي ما فتىء يشنّ حملة تحريضية وهيستيرية تلو الأخرى ضدّ اللاجئين الفلسطينيين والسوريين في لبنان؟ والمعادي لكافة الشرائح والطوائف والأحزاب اللبنانية؟ وصاحب النَّفَس الإلغائي ضدّ أي منافس محتمل قد يزاحمه مستقبلاً على كرسي الرئاسة؟ والمهووس بشبق السلطة والتسلّط؟ والمتهم بتعطيل الحكومات لسنوات وسنوات؟ ومن فُصّل قانون انتخابي على مقاسه بعد رسوبه المرة تلو الأخرى في الانتخابات النيابية السابقة؟ والمتهم بشبهات الفساد من كلّ حدب وصوب؟ والذي دخل السياسة وهو يتنقل بسيارة مهلهلة ليتنقل بعدها بسيارات فارهة وطائرة خاصة يجوب بها العالم؟

هل هو باسيل نفسه الذي أطّل على قناة "الميادين" معلناً قبوله بوجود إسرائيل وحقها في العيش بأمان، نافياً أي خلاف أيديولوجي معها، متناسياً أنه وفقاً للقانون الدولي يعتبر لبنان في حرب مع هذا الكيان العنصري والغاصب؟ وهل هو نفسه الذي طالب بعودة عملاء أنطوان لحد، معتبراً أن عودتهم هي فعل مقاومة من أجل لبنان؟ ضارباً بعرض الحائط دماء الشهداء الذي قاوموا وضحوا وسجنوا وعذبوا وقتلوا، واضعاً إياهم في نفس خانة جلاديهم الخونة.

النظرة إلى باسيل من زاوية التقييم وتحديد اتساع قامته وإنجازاته، تحتاج إلى جراحة تصحيحية في العين والدماغ. وما تراه مي خريش من "زهر اللوز" وموسوعة الأزهار واللجوء إلى القواميس التي تخطف الكلام إلى مصيدة البلاغة وشراك إملاء المشاعر، له في العُته أوصاف وفي العشق عمى.

وعبد الحليم حافظ الذي غنّى يوماً "أما أنا وحدي أنا بشوفك بس بعيون غير عيون الناس، وبحبك بكل ما في القلب من إحساس"، تبيح أغنيته تلك "مدّاح القمر" للعاشق الولهان أن يرى الديك حصاناً، وأن يرى في الرعديد وكأنه فارس بني عبسٍ عنتر أو عليّاً فاتح حصون خيبر.  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024