"غزة": فخ الصورة المغايرة

حسن الساحلي

الأربعاء 2019/05/08
في فيلم "غزة"، الذي يعرض يوم الأحد المقبل ضمن فعاليات "شاشات الواقع" في سينما متروبوليس، يحاول المخرجان غاري كين وأندرو مكونيل تقديم صورة مغايرة للمتداول في الإعلام الغربي عن المدينة الفلسطينية المحاصرة منذ سنوات من قبل الحكومة المصرية والإسرائيليين.

تشير إلى هذه الصورة إحدى شخصيات الفيلم منذ البداية: "الناس لا ترى في غزة سوى صورة الحرب ونحن لا نحصل بالمقابل سوى على مشاعر الشفقة". 

لكن عوضاً عن البحث عن صورة أكثر واقعية، وقع المخرجان في فخّ تقديم "صورة عكسية" لتلك الموجودة في الإعلام لتمثيل المدينة بها، فركّزا على زاوية واحدة في غالبية الفيلم، تتمحور حول معالم الفرح وحب الحياة عند سكان القطاع، من خلال مجموعة شخصيات ذات مزايا إيجابية، ليس هناك بينها من هو عاطل عن العمل أو يعيش حياته في المدينة بشكل "سلبي" إقتصادياً أو نفسياً (كما هي الحال مثلاً مع شخصيات الفيلم الفلسطيني "عالم ليس لنا"). كما أن كلاً من الشخصيات العشر الرئيسية، تمتلك مهنة واضحة المعالم (مصممة أزياء، سائق تاكسي، ممثل مسرحي، صياد سمك، خياط، عازفة تشيلو، مغني راب ... )، والجزء الأكبر منها ينتمي إلى الطبقة الوسطى، ويمتلك أفضلية على باقي سكان القطاع. ربما الشخصية السلبية الوحيدة هي شخصية الأب الذي تزوج ثلاث نساء ولديه 40 ولداً، ويقول عن نفسه أنه يمتلك أكبر عدد من الأولاد في كافة أحياء القطاع. 

هذه الرغبة في رؤية جزء واحد من الواقع، لعبت دوراً سلبياً في شباط الماضي عند عرض الفيلم في مهرجان Sundance - أكبر مهرجانات السينما المستقلة في الولايات المتحدة، وقد منعت الفيلم غالباً من الفوز بالجائزة المخصصة للفئة الأفلام الوثائقية. 

وضع مراسل مجلة "هوليوود ريبورتر"، العمل، بعد عرضه في المهرجان في خانة البروباغندا، رغم إقراره بالقوة البصرية التي يتمتع بها وبالتأثر العاطفي الذي شعر به خلال مشاهدة العمل (وهو الذي يعيده إلى نوع من الخداع). طبعاً مشكلة هذا الصحافي مع الفيلم، غير منطقية، فهو يرفض أن يكون هناك من يتكلم الإنكليزية بهذه الطلاقة في غزة (شخصية عازفة التشيلو)، ويستهجن إمتناع الفيلم عن إظهار العنف الذي يقوم به الفلسطينيون أيضاً ضد الإسرائيليين! (أي مطلقي الصواريخ نحو الأراضي الإسرائيلية). 

لكن "غزة" أتاح لهذه الملاحظات أن تأخذ شرعية، بسبب تهميشه الفئات الإجتماعية الأخرى التي تعيش في القطاع، فلا وجود لأي نقاب مثلاً، وغالبية النساء غير محجبات، كما أننا لا نرى أحداً من جماهير "حماس" الغفيرة التي تظهر لنا في إحدى المشاهد، كأن المشاركين فيها قادمون من بلاد أخرى.

كما أن أسلوب المخرجَين، رومانسي في الغالب، ما يظهر في مشاهد الشارع التي ترافقت مع موسيقي ذات طابع حزين وأصوات كمنجة و"درون" (نوع موسيقي يعطي نشوة في حال الإستماع إليه لفترة طويلة). وقد لجأ المخرجان إلى تقنية إبطاء الصورة لإعطاء طابع "خلاصي" لمشاهد الناس في الشارع، وتمثلها (أي التقنية) جملة تعتبر كليشيه بلا شك، قالتها إحدى الشخصيات "عندما أنظر إلى الناس أرى الأسى في وجوههم". 


أخذ البحر الجزء الأكبر من الفيلم، وتكلمت عنه الشخصيات من زوايا أربع. الأولى تتحدث عن البحر كشاطئ يزوره السكان لمحاولة الإبتعاد عن واقعهم، ويهرب إليه طفل بسبب الزحمة في منزله الذي يتقاسمه مع 40 من إخوته وأخواته. أما الثانية، فترى البحر كأفق نحو حرية غائبة (بسبب منع سكان القطاع من تجاوز مسافة ثلاثة أميال) وتمثلها بشكل خاص شخصية عازفة التشيلو التي تحلم بالخروج من القطاع، لاستكمال دراستها في الخارج، وعيش حياة طبيعية. 

أما الزاوية الثالثة فيمثلها صيادو السمك الذين يركنون إلى البحر كمصدر للعيش، مثل آلاف السكان الآخرين. هنا نتكلم فقط عن الجزء الصغير من البحر الذي يُسمح فيه للصيادين بممارسة عملهم، وهو الجزء الذي يتواجد فيه أقل عدد من الأسماك.

والزاوية الأخيرة، ترى البحر كسجن آخر وأداة للإضطهاد الإسرائيلي، ويمثلها سجين محرر ينتمي إلى "الجبهة الشعبية" كان قد سُجن بسبب اجتيازه المسافة المتفق عليها للصيد، ويخبرنا عما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين من قتل وتعذيب واعتقال بسبب إصرارهم على ممارسة المهنة التي توارثوها عن أجدادهم. 

نجح الفيلم طبعاً في إعطائنا فكرة عن حياة الخوف التي يعيشها القطاع، وأثر التروما في السكان والأطفال، خصوصاً الجزء الأخير منه الذي خُصص للحرب ومسيرات العودة. 

يستعير الفيلم هنا عيون ممرض يتنقل بين الإنفجارات والمصابين والأمهات المفجوعات، ويركز بشكل خاص على تعابير الناس في هذه المواقف، والخوف الذي يشعر به الإطفال خلال الإنفجارات إذ يركضون عشوائياً في عجز واضح عن الفعل. تظهر مسيرات العودة كانعكاس للعجز الذي يعيشه السكان خلال الحرب، لكنها، في الوقت نفسه، تبدو غريبة ضمن سياق الفيلم بما أن الشخصيات التي نراها بعيدة من تلك التي تشارك في هذه المسيرات، وفي الغالب لا ترى جدوى منها. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024