في اسطنبول.. أحكي لفيليب عن لبنان وغطائي الأزرق

عزة طويل

الجمعة 2021/08/06
منذ أسبوعين وأنا أتابع أخبار بلدين: لبنان وتركيا. لا تعني لي تركيا شيئاً سوى أنها مُتنفس، جميل، يبعد عنك قهر الكهرباء في لبنان، والبنزين، والخبز، وحوادث السير المميتة، وانقطاع الأدوية، والمستشفيات الهالكة، وموتٌ كثير…

في لبنان مآسٍ لم تعد تُحتمل، وأيّ حديثٍ مع أيّ لبناني في هذه الآونة يتضمّن بالتأكيد انقطاع الكهرباء وجنون أصحاب المولدات والشموع والدولار والمصارف وتحويشة العمر التي سُرقت. كما أنني، منذ وصلت تركيا، أجد نفسي أكرّر في كلّ اتصال مع شخصٍ يعنيني: "لا تتردّد في التواصل معي إذا احتجت إلى أيّ دواء من هنا".

يبدو لي خروجي من لبنان انتصاراً لم أصدّق بعد أنه تحقّق. أتابع أخبار تركيا خوفاً ممّا قد يعرقل هروبي من بلدي الحبيب واستقراري في تركيا، فأضطرّ إلى العودة خائبة مع عائلتي الصغيرة. أعداد الإصابات بكورونا ترتفع في اسطنبول، ورئيس بلدية "بولو" يعتزم فرض ضريبةٍ على استخدام الأجانب للمياه، تفوق بعشرة أضعاف الضريبة نفسها للأتراك. "لا يريدون السوريّين هنا"، تردّد إحداهنّ. ويقول آخر في الإنترنت، تعقيباً على خبر الضريبة: "هذا أمرٌ جيّد"، فتنهال عليه التعليقات بأنّه فاشيٌّ وبأن هذا تمييز عنصري. السوريّون غير مرغوب في وجودهم، لا في لبنان العظيم ولا في القسطنطينيّة، ذلك أنهم غرباء وعقدة الغريب في كلّ مكان. أكرّر جملتي وأضحك. عن أيّ غريبٍ تحديداً يتكلّمون، رغم أنف التاريخ!

أما اللبنانيون، فأتساءل عن مصيرهم في "الشتات" هم أيضاً. منذ بدء الأزمة واللبنانيون يتوافدون، الواحد تلو الآخر، إلى تركيا وفرنسا وقبرص واليونان والإمارات وكندا وألمانيا،… وحتى جزر الموريشيوس لم تسلم.

قبل يومٍ من ذكرى انفجارنا العظيم، كان الشعب يتدافع أمام مكاتب الأمن العام لاستخراج جوازات سفر وتجديدها. ثلاثمئة معاملة جواز في اليوم الواحد، هي قدرة فرع الأمن العام في بيروت على ما يبدو. وللحصول على دورٍ ورقمٍ، عليك التواجد هناك منذ الرابعة صباحاً، وإلّا فسيتوجّب عليك العودة في الغد. مشهدٌ يذكّر إلى حدّ كبير بمشهد سيّارات اللبنانيين أمام محطّات البنزين. هناك أيضاً، عليك حجز دور منذ الصباح الباكر، وربما تنام ليلتك السابقة في سيارتك كي تتمكّن من الحصول على بعض الفيول. حُلّت أزمة البنزين داخلياً عبر خلق سوق سوداء موازية، وصل سعر عشرة ليترات من البنزين إلى مئتي ألف ليرة لبنانية رخيصة. أما جوازات السفر، فعنوانها الإصرار والمثابرة والعودة كلّ يوم في سبيل مغادرة لبنان.

الجالية اللبنانية في تركيا توسّعت بشكلٍ مضطّرد وهاجر الآلاف والآلاف منذ 4 آب 2020، أي تاريخ قصم ظهر الشعب اللبناني. كالسوريين، وجد اللبنانيون مقربةً وسهولةً في التوافد إلى تركيا، هرباً من حكّامٍ اجتمعوا على شعبهم. قريباً، قد يبدأ اللبنانيون بالتساؤل إن كان قرار رئيس بلدية "بولو" موجّهاً ضدّهم أيضاً. فالفرنسية التي نتقنها بطلاقة لا حاجة لها في تركيا، ولا الانكليزية، كما أنها لا تجعلنا غرباء أقلّ في بلد السلطنة العثمانية.

حين أخبرتُ أبي أنني حجزت تذكرة السفر، كنت أحدّثه عبر الهاتف، وكان قلبي يرتجف. استجمعت قواي كلّها لأخبره، وبمجرّد أن خرج تاريخ السفر من فمي، سارعتُ إلى القول: "تركيا قريبة، مش أحسن ما كون رايحة ع كندا؟ بعدين، إذا بدأت الحرب بلبنان بتِجوا مباشرةً. وكلّ شيء على ما يرام!". لم أترك له فرصة الكلام أو إضافة أيّ حرف. سيكون لي منزلٌ في اسطنبول، وسيتوافد إليه الهاربون من لبنان "إذا صار ما صار". عدت يومها طفلةً صغيرةً تهاب القصف والمدافع والأبنية ذات الفجوات الواسعة. انسلَخَت نفسي عن نفسي للحظةٍ يومها، وشاهدتُ عزّة الصغيرة وقد كبرت لتأخذ هي هذه المرّة قرار الرحيل عن لبنان الصغير. حين أغلقت الهاتف مع أبي، تنفّست الصعداء وتقبّلتُ أن شبح الحرب سيظلّ يلاحقني أينما ذهبت. هكذا عدت إلى غرفتي ووضّبت "حِرامي الأزرق" في شنطة السفر.

في الفندق في تركيا، تعرَّفَت ابنتي إلى صبيّ صغير لطيف للغاية. توطّدت العلاقة بينهما بسرعةٍ شديدة وجاءني أبوه يطالب برقمٍ لكي يتواصل فيليب مع سيرينا بعد مغادرة الفندق. أعطيت الوالد رقم هاتفي، وأخبرته أنني من لبنان وزوجي من سوريا، فجلس معي وراح يسألني عن لبنان. اليوم يحتلّ لبنان حيّزاً من قراءات الأجانب للأخبار، تماماً كما كانت حالة سوريا قبل أعوام أصبحت طويلة الآن. منذ الانفجار الكبير، غدا العالم كلّه على معرفة، وإن بسيطة، بلبنان وأخباره، بما في ذلك والد فيليب الآتي من رومانيا. سألني عن الحرب واحتمالات عودتها. سألني عن الوضع الاقتصادي، عن الأحزاب، عن الانفجار، عن الطائفية، عن الليرة وحتى عن المصارف! بادرني بكلّ ما أريد نسيانه، وركّز كثيراً على الحرب. فوجدتُ نفسي أحدّثه عن الغطاء الأزرق الذي أتى معي إلى اسطنبول، وأطلب إليه أن يستنتج بنفسه ويعفيني من الإجابات المباشرة.

قلت له: "ثمة غطاء أزرق ثقبته قذيفة مرّت قبل أكثر من ثلاثين عاماً من فوق رأسي، وأنا نائمة في سريري، زمن حرب التحرير". لم أتوقّع أن يفهم ما قصدت بحرب التحرير، ولا أن يربط بين السوريين واللبنانيين والقذيفة التي كادت تودي بحياتي، وصمتُّ بانتظار أن يُتِمَّ ترجمة ما أقول إلى الرومانية لأمّه التي رافقته وابنه في رحلته. "دخلت القذيفة من نافذة غرفتي واستقرّت في الحِرام فلم تنفجر"، أكملتُ بهدوء، فتَرجَمَ بالهدوء نفسه. "اليوم، هذا الغطاء يرافقني إلى اسطنبول. هو في الغرفة فوق في الفندق، كدليل على بقائي على قيد الحياة. هذا مدى تأثير الحرب في نفوس اللّبنانيين، وهذا ما أعاده الانفجار إلى سطح ذاكرتنا. نحن اللبنانيين، أصبح لكلّ منّا حِرامَه الأزرق".

ما زالت ابنتي وفيليب يتبادلان، بشكلٍ شبه يوميّ، أعلامَ رومانيا ولبنان وتركيا، عبر الواتساب، وقلوباً كثيرة. لا هو فهم أنها سورية أيضاً، ولا أنا أدركتُ بعد كيف تثابر مصائر بلداننا على الالتقاء بهذا الشكل.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024