باسم الكربلائي: صانع الإحتزان ومحتكره

روجيه عوطة

الثلاثاء 2016/10/04
لا تستوي طقوس الإحتزان العاشورائية على تمامها بلا أن يشرع ممارسوها في الإستماع إلى لطميات باسم الكربلائي، جاعلينها، عبر مكبرات الصوت التي تتجهز بها سياراتهم ومنازلهم، على مسامع الحاضرين حولهم. 
فمع أن ذلك الرادود العراقي (مواليد العام 1967) لا يتوقف عن إصدار أناشيده الدينية، لكنه، يبقى بشيوعه مقروناً بالمناسبة الكربلائية، التي يحتفي بها في الحسينيات والصالات، سارداً قصتها بالندب والتوجع. هذا ما واظب عليه منذ أوائل ثمانينات القرن المنصرم، قبل أن يستحيل نجماً من نجوم النواح وتطريبه في أواخر التسعينات، وهذا ما عمد إلى تطويره من مرثية إلى أخرى، حتى أضحى إسمه منعطفاً في صناعة العويل وترجيعه.

افترق الكربلائي عن الرواديد السابقين على ظهوره، مثلما لم ينجذب إلى الرواديد اللاحقين عليه. ففي حين كان المنشد قبله يعتمد على النص، مستنتجاً نبرته، ومستخلصاً إيقاعه، قبل أن يمضي في تأديته، وفي حين كان المنشد بعده يعتمد على التأليف الموسيقي، وبالإستناد إليه، يختار نصه المناسب، بدا "الملا"، حسبما يسميه متابعوه، كأنه يخلق تقنيته الخاصة بالنحب والإبكاء. 

إذ يرتكز على نبرته.. ومنها، يستنبط إيقاعاً شبه موسيقي. وعلى أساسه، ينتقي نصه. بالتالي، يوازن بين الصوت والقصيدة، والإثنان يجتمعان في المشترك بينهما، وهو النطق بالشجن والغص بالشقاء. فيحرك الكربلائي صوته ونصه، ومعهما، جسمه ووجهه، على وقع واحد، أي وقع الفجيعة، ليغالي في إنتاج الحزن، ونقله إلى الجمهور، الذي، بدوره، لا يتوانى عن الأخذ به، وإدرار نفسه من خلاله، أكان بذرف الدمع، أو إراقة الدم، أو الضرب على الصدر.

ولعل الكربلائي هو الأكثر تمكناً بين المنشدين من صناعة "العرض الحسيني"، الذي يتشكل منه، بوصفه فم التفجع، ومن جمهور اللاطمين، باعتبارهم أُذُن التألم. يعتلي المنبر أمامهم، ويبدأ إنشاد قصيدته بقراءتها، ثم، يرفع نبرتها قليلاً. وفي الوقت نفسه، ينطلق حشده في اللطم الخفيف. شيئاً فشيئاً، يتوحد صوت الرادود مع صوت اللطم، ويستقران على وزن موحد، فلا يكاد ينهي الملا شطراً من قصيدته حتى يعلو دوي الضرب على الصدور، وبالتالي، يستقر المشهد بين المنشد واللاطمين على نسق محدد من التفاعل، قوامه الإنصهار: "ذوب أخي، ذوب في حب الحسين".

بصوته، يحمّي الكربلائي صدور المحتشدين أمامه، وبعد أن يجد لدويّ لطمهم مكاناً بين مقاطع قصيدته، يتغيرون إلى جوقةٍ، تردد نشيده، وذلك، قبل أن ينسحب إلى سكوته، فيأخذون محله، ويكملون مرثيته من دونه. وهكذا، يذهبون من تلقي الحزن من صوت الرادود إلى معاودته، ولاحقاً، إلى إنتاجه وحدهم، وعلى طول ذلك، قد يقطعون اللطمية بنحيبهم الشديد، فيتدخل الكربلائي ويخفف من وطأة انفعالهم، كما لو أنه يمنعهم عن انهيارهم الكلي، مبقياً إياهم على حافاته أو أطرافه، حيث يتزاحمون في التمايل، وخبط رؤوسهم بأيديهم، وطبعاً، صب دموعهم بالتوازي مع إخفاء عيونهم بكفوفهم.

على أن الكربلائي لا يبعدهم عن الإنهيار إلا حفاظاً على إنصهارهم في المشهد الإحتزاني، الذي يصنعه معهم. ولهذا، وحين يجد أنهم بلغوا درجة مرتفعة من التعب، يتحدث معهم بلسان الشخصيات العاشورائية، وعلى رأسهم، الحسين، أو أنه يوجه أنظارهم نحوه عبر مضاعفة نواحه، فلا يتيح لهم الإستقلال بحزنهم عن إحزانه لهم، بل يظل متحكماً بمآلات إلتعاجهم: "إيدك، إيدك، ارفعها، صيح، صيح، سجل إسمك، سجل إسمك في كتاب الحسين". يوزع عليهم أساه، فيقدمون على تثبيته في أنفسهم، وعندما يظهر بوطأته الشديدة عليهم، يتدخل "الملا" كي يسترده منهم، ويحتفظ به، محولاً إياه إلى بثٍ. والأخير، بحسب الثعالبي، هو أشد الحزن.

يتقن الكربلائي صناعة الإحتزان، وحقن جمهوره بالكآبة، لدرجة أنه، في بعض الأحيان، يبدو متفاجئاً بأثر صوته فيهم، فيتوقف قليلاً عن الإنشاد، وينظر إليهم كأنه يقول لهم أن لحظة إنحسارهم تحت ضربات الوجوم لم تَحِن بعد. فحتى لو أوصلهم إلى تلك اللحظة، سيسرع إلى إبعادهم عنها، كما لو أنه سائقهم إلى الحزن ومخلّصهم منه على حد سواء. 

ولذلك، يعطي لقصيدته، التي غالباً ما يسرد فيها وقائع المعركة الكربلائية، دورين. في الدور الأول، تبدو القصيدة معمل الحزن ومحمله، بحيث أنها لما تنزل على مسامع الجمهور، تدخل بمشاعرها في أجسادهم، وتدفعها إلى اللطم والنواح. أما في الدور الثاني، فتبدو القصيدة كأنها المنفذ من الحزن ومسحبه. فالكربلائي يتكئ عليها لكي يعيد الجمهور إلى طاعته. تالياً، ينقل الكربلائي قصيدته بين هذين الدورين، وهو يفعل ذلك، بتكرار إحدى عباراتها المفتاحية: "طويلة رحتلي وأخاف برجعتي ما أشوفك...ما أشوفك...ما أشوفك".

تجتمع لطميات الكربلائي على نوع من السرد السريع والخفيف، ما يسمح له بالتدخل فيها، وإيصالها إلى أكبر عدد من المستمعين، الذي، وبحسب الأرقام المسجلة تحت فيديوات "الملا" في "يوتيوب"، قد يبلغ عددهم عشرات الملايين. مع العلم، أن الإستماع إلى الكربلائي ليس محصوراً في بلد دون آخر. فصحيح أنه عرف رواجه في العراق بدايةً، لكنه سرعان ما ذاع صيته في باقي البلدان، أكانت ناطقة باللغة العربية أم لا، وهذا ما حمل صاحب "يا ريح الهاب" إلى ترجمة بعض لطمياته إلى الفرنسية والإنجليزية، فضلاً عن زياراته المتعددة لبريطانيا وهولندا والصين.

في مقابلة من مقابلاته التلفزيونية القليلة، يتحدث باسم الكربلائي عن مواظبته غير المنقطعة على العمل، وهو، لكي يفسر  فعله هذا، يقول إن تذكره الدائم لمصاب الحسين يدفعه إلى التلحين والتأليف. إذ أنه مسكون بحزنٍ لا ينتهي، الأمر، الذي يحمله إلى صياغته، وإدماج الجمهور فيه، حتى يتحول إلى جسم ملتعج وغاضب. ففنّان الإحتزان هو الذي يوزع التعاسة، ويدرك، في الوقت نفسه، كيفية احتكارها. وعندما يُسأل عن الرواديد، الذين سيحملون "أمانته"، يجيب بأنهم غير موجودين بعد، فلا أحد بارعاً، بحسبه، في تسليط الحزن على الأنفس أكثر منه، ولا أحد يخرط الحزن في الأجساد أكثر منه. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024