أبناء خالتنا اللبنانيون

عدنان نعوف

الثلاثاء 2019/10/22

لا شيءَ يُوقِظ الهوية السورية مثلما يَفعَل الحَدَث اللبناني، فكيف إذا كان هذا الحَدَث "ثورة"؟ انتفاضات شعبيّة عربيّة وأجنبية لم تستطع إشعال رغبة السوريين في إجراء المقارنات المستفيضة.. أمّا لبنان فاستطاع! ومهما قِيل عن كَون حِراكه جذّاباً في عيون "الجميع"، فإنّ ما يجعلنا كسوريين نعتبره -بلا إفصاح- المِسطرة التي نقيس عليها، هو "لبنانيّته".

كان لنظرةٍ سريعة على ظروف ثورتَي البلدين أن تجعل المقارنة ظالمة وغير منطقية من الأساس. لكن هل كان ذلك ليَمنَعَ سَيل التفاعل السوري من التدفّق؟

كثيرٌ من السوريين أسعَدَهُم المشهد، بعيداً من فوضى ردود الأفعال من تحيّاتٍ أو مُباركاتٍ أو تهكّم أو حَسرات. حتى أن حالة التفاعل تجاوزت جمهور المعارضة، وتسرّبت إلى الأوساط الموالية.

وفيما تنوعّت التعليقات، فإنّها لم تُغادِر أسئلةً أكبر من قبيل:"ماذا لدينا أَمام ما لديهم؟".. و"هل كان ينقصنا مظاهر الجمال، أم الصدق أم الخبرة؟".

في النتيجة رَأَينَا ثورتنا تُوضع بشكل غير مسبوق على مِشرَحة النقد، وأحياناً على كُرسيّ الاعتراف. وكما هو مُتوقع استغل المصطادون في الماء العكر من مُنظِّري "العلمانية السوريّة" وروّاد المقاهي دائمي الظّرفَ، لترداد مقولاتهم السطحية، وتعيير حِراكنا بأنه "خَرجَ من الجوامع" (لا من تجمعاتهم ومسيراتهم المؤيدة مثلاً!). وفي المقابل ذهب آخرون نحو الوعظ الوصائي، والتقاط الهفوات اللبنانية كما حدث في موضوع مشاركة الراقصة، والتي تبيّن لاحقاً أنها مدسوسة من "الثورة المضادة".

وبَينَ جُنونٍ احتفالي وآخر نقديّ (عقلاني أو كيديّ)، بدا لافتاً أننا نعيش، بلبنان، حالةً سوريّة. فقد جَعَلنا الحراك اللبناني ننظر إلى أحوالنا كسوريين، ونسأل عمّا يُميّزنا، وماذا حقّقنا وأنجزنا، وهل يُعقَلُ أن نحتمي بحَجم خرابنا ووحشية نظامنا -حتى إشعارٍ آخر- باعتبارها مِيزاتٍ ترسُمُنا كـ"أبطال"؟

تتعدّى المسألة حسابات الجدوى والمُمكِنات، واللطم والنحيب فوق جثة ثورة ضاعَت ترجماتها العمليّة -التي انتظرها البسطاء- وسط أروقة السياسيين وصراخ المُزايِدين؛ أصحاب النبرة العالية والذخيرة الوفيرة من الشعارات الأخلاقوية الهاربة من سؤال: "ماذا بعد"، حتى جاءت لحظة لم يَبقَ فيها من ثورتنا إلّا الغَضَب المُعَادُ إنتاجه، ومَشاعر الطهارة الثورية في مقابل النجاسة الأسديّة.

ليس جَلْدَاً لسُوريّتك أن تتلمّس مَواضِع الخلل فيها، مُعترِفاً بأنك ابنُ مجتمعٍ تَعرّضَ للتغييب فانفصلَ عن الواقع وعاش طويلاً في "كهف الوطن" معزولاً عن العالم. بل إن من الشجاعة بمكان أن نعرف "أين نقف بالتحديد" من دون أن نتحدث بَبّغائياً عن دور النظام الأسدي في تحويلنا إلى كائنات تُعمِيها الإضاءة العالية. ذلك أن في تجاهل كليشيهات التجريم -في بعض المناسبات- فُرصةٌ للنموّ، بدلاً من مداراة الفشل بـ"السَببيّة".

كسوريين، نُحِبُّ أن نرى أنفسنا أو شيئاً مِنّا على الأقل من خلال لبنان الذي لطالما كان نافذتنا لرؤية الألوان. هذا البلد فتَحَ عيوننا على جماليّات لا علاقة لها بالتفكير في لقمة العيش، والتفاخر بتوفّر الخبز وانتشار "الأمن والأمان". كان ذلك منذ أن شاهدنا "استديو الفن" وتابعنا "أهلا بهالطلة" فأدركنا أن الموسيقى والرقص ليسا من الكماليات. نَعَمْ! أبهَرَنا بَلَد الصبوحة ووديع الصافي بنجومه، فصِرنا نبحث عن حضورٍ سوري مماثل ونتساءل: كيف دُفِنت موهبة ربا الجمال في بلاد راعي الفن والفنانين؟ ولماذا يحتفي الغرباء بصباح فخري أكثر منّا؟ ومَن الذي وضعَ احتقار حاجات الإنسان النفسية ضمن كتالوغ مواجهة العدو؟.

وحين تعلّقَ الأمر بالرياضة، انتظَرنَا بفارغ الصبر أن يظهر عندنا مَن يُقدّم سوريا إلى العالم، ونحن نتابع بإعجاب ثلاثيات بولس بشارة ووليد دمياطي، وإبداعات إيلي مشنتف وفادي الخطيب، والمنافسة النديّة بين أندية مثل "الحكمة" و"الرياضي"، لا بين نادي "الجيش" والبقية!

يُحَرّك مشاعرنا ما هو أبعد من السياسة، إذاً، لذلك فإن أنظارنا اليوم توجّهت إلى لبنان كما اعتادت أن تذهب. وإنْ ادّعَينا أن دافعنا هو التضامن فحسب، أو البحث عن فكاهات وطرائف مظاهراته وغرائبها، فإن الحقيقة في مكان آخر، في عُمق وعينا بعلاقتنا به وبسكانه.

أشقّاء نحن؟ لا، أبداً. فتلك لعبةٌ بعثيّة استهدفت ابتلاع "الأخ الأصغر" وتسخيره لمصالح فئات محددة في البلدين. الوصف الأدق هو أننا، كسوريين ولبنانيين، "أبناء خالة"، يَحلو لنا تقييم ما عندنا بالمقارنة معهم.

عَلاقةٌ تُشبِه الغِيرَة التي تطفو على الكلام والوجوه. مُبالغاتٌ لفظيّة تقزيماً وتمجيداً.عبارات تَآخٍ سائِلة أو مفردات خَشَبيةٌ تحتمي بموت معانيها من احتمالات الحياة. احمرارٌ وانكماش وتمدّد. جميعها أعراضٌ عامّة. لكنها تعني في العمق أننا نَغَار مِمَّن "يستطيع تحريك شعورنا"، لأنه ببساطة قريبٌ من القلب أكثر من غيره، بغضّ النظر عمّا خلّفتهُ سنوات القهر وتراكمات الساسة والعسكر في النفوس من عنصرية. فكيفما اختلفتْ طُرُقُ التعبير، فلا تُصدّقْ شخصاً سُوريّاً يَشتمُ أو يزدري أو يَسخَرُ من لبنان في العَلَن، فإما أنه يكابر أو يجهل نفسه. إتبعهُ إلى خَلوتِه بعد انتهاء المناوشات، وسَتراه يَسمع "بحبّك يا لبنان" بصوت فيروز.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024