صباح عادي في حياة نحلة عاملة

عزة طويل

السبت 2021/06/05
في لحظاتٍ كهذه تجتاحني حالةٌ من الغضب تخرجني من جسمي. تلقّيت قبل فترةٍ ساعةً ذكيّة كهديةٍ، فرحتُ بها فرح طفلٍ أهديتَه لعبةً للتوّ. ساعتي هذه تسجّل لي لحظات التوتّر. تقول لي "تنفّسي"، فقد ارتفع مستوى الضغط لديك، فأجد نفسي غالباً آخذ نفساً عميقاً من أنفي أخرجه ببطءٍ شديد من فمي. صراحةً أصبحت أقضي نهاري وأنا أتنفّس بشكلٍ واعٍ لعلّ التوتّر يغادرني.

صوت طفلي مرتفعٌ جداً حين يصرخ. يجعلني، في لحظاتٍ كهذه، أريد الهروب فقط. قضمتُ للتوّ لساني، ذلك أنني لم أهرب. صغيري كان يصرخ من قلبه، وطفلتي تبكي بحرقةٍ لأن بالونها لم يصمد في وجه مشاغبتها و…فقع!! مآسٍ مستمرّةٌ كهذه، تستجلب صراخاً وبكاءً حدّ النواح، وتجعلني أضع يديّ على أذنيّ وأصلّي كي يستيقظ زوجي (الذي أهداني الساعة) ليخفّ توتّري قليلاً. ابنتي ملتصقةٌ بظهري، تنتظر منّي أن أخلق بالوناً جديداً في لحظة، أو أن ألصق بالونها الذي فقع فتتمكّن من نفخه من جديد. معجزاتٌ كتلك التي يطلبونها منّا، ليست في مستطاعنا. "هلّق هلّق"، تقول بثباتٍ لا أذكر أنني تحلّيت به حين كنت في عمرها. فيما طفلي مستمرٌّ في صراخٍ قد تسكته عنه موزةٌ للحظاتٍ (لحظات الابتلاع)، لكنّه يعود ليتذكّر أنه كان يصرخ فيعاود الكرّة من دون أن يعرف هو نفسه لماذا يصرخ. آخر صوتٍ سمعه قبل الموزة كان صراخه، لذا يعود إليه بكلّ بساطةٍ بعد الموزة بسبب ألفة الصوت، لا أكثر. كما أن بكاء أخته يذكّره بالصراخ، لذا لا بدّ له أيضاً من الانصياع.

يهدأ الوضع لدقيقةٍ ربما. تطلب ابنتي موزةً مقطّعةً مع بعض العسل. هذا كان حلّي الذي اعتبرته مناسباً لإقناعها بتناول ملعقة عسل طبيعيّ كلّ يوم، ولإعطائها بدائل صحيّة عن السكّر الذي يبدو أنها أدمنته. أنتشل نفسي من حالة الإحباط التي بدأت تتسلّل إلى جسدي، وأقصّ لها الموزة ثم أضيف العسل الذي أعرف أنها تقبّلته من قبل (توجّب عليّ إحضار أنواعٍ عديدة من العسل لتجرّبها وتتقبّل العسل من أساسه). تتذوّق قطعة الموز الأولى وتصرخ. تصرخ كأن ذئباً قضم لها أذنها للتوّ.

أسألها بهدوء: ما الأمر؟ فتجيب: لا أريد هذا العسل لا أريدهووووووو. هذا ليس العسل الذي أحبّ. قومي الآن حضّري لي موزةً أخرى ااااااااا. الآاااان.

ألعن في قلبي العسل، والنحل، والورود. أتذكّر أن لديّ عملاً كثيراً ينبغي أن أقوم به لأتمكّن من شراء العسل وغيره، ولأتمكّن أيضاً من تحقيق ذاتي في الأمومة وخارجها أيضاً. زوجي يعمل هو الآخر، ويتأخّر في عمله، فيحلّ وقت نوم الأطفال بعد ساعةٍ تقريباً من إنهائه عمله. وأستيقظ أنا لأنغل كالنحلة العاملة منذ الصباح الباكر، وحتى وقتٍ متأخّرٍ من المساء.

لعنة اللّه على النحل، وليذهب العسل إلى الجحيم! لمَ أساساً يَعِدونك بنهرٍ من العسل في الجنّة؟ ماذا إذا لم يعجب عسل ذاك النهر شخصاً ما؟ أم أن اللّه يعلم أن كُلّاً منّا يفضّل نوعاً محدّداً من العسل، فأوجد تركيبةً عسليّةً ما تناسب الجميع؟ ليتني أضع يدي على تلك التركيبة السحرية، لعلّي أتوقّف عن لعن العسل هذا الصباح!

أبتسم لفكرتي وأنا أتنفّس ببطء. يهدأ توتّري قليلاً، أضيف فوق الموزة المقطّعة نوعاً آخر من العسل، وأخلط مكوّنات الصحن فتهدأ الصغيرة وتبدأ بتناول فطورها. يبدو أن التركيبة نجحت هذه المرّة، على الأرض وليس في السماء. رائع!! أنت رائعةٌ يا حلوتي. تقطع الصمت من لحظةٍ إلى أخرى نداءات صغيري: يريد موزةً أخرى، لكنّه يكره العسل من دون أن يلعنه. "ماما شوفي أنا"، يقول وهو يأخذ قشرة الموز بفخرٍ إلى سلّة الزبالة. رائعٌ للغاية! أنت رائعٌ يا حبيبي!

يرنّ تلفوني. إنه المكتب. علينا في العمل أن نجتاز الأزمة الاقتصادية العميقة في لبنان، لذا تستغرق كلّ خطوةٍ، تفكيراً عميقاً ومحادثاتٍ ودراساتٍ وأرقاماً أقوم على أساسها باتخاذ القرار. تذكّرني ساعتي بضرورة التنفّس العميق. صوت طفليَّ يقاطع مكالمتي كلّ الوقت. "ماما غسّليلي إيدي". أكمل الحديث عبر الهاتف وأرفع صغيري على كرسيّ وُجد لحظّي الرائع إلى جانب المغسلة. أدير الماء وأشرع في غسل يدي الصغير، وأنا أفنّد حاجات العمل المالية لهذا الموسم والتي ستضمن أن نستمرّ في الإنتاج، وبالتالي نبقى أقوياء. لا مشكلة، فقد فكّرتُ في الأمر من قبل وأعرف عمّا أتكلّم، وإن توجّب عليّ أحياناً أن أجتاز فخّ العصبيّة وأنا أتحدّث إلى زميلٍ يَفترِض أنه أعلَم وأقدَر، أو إلى آخر يزعجه عملي من بُعد منذ بداية أزمة كوفيد، ويُشعره بالظلم لأنه وُلد بقضيب. أشعر بالفخر لأنني عكستُ نظرية "حسد القضيب" الخاصّة بفرويد، فغدا بعض الرجال يحسدوني كوني امرأة، وإن كانت النظرة سطحيّةً لا يهمّ. أتذكّر زميلاً سابقاً طالب بأن يكون ثمة بديلٌ عنّي، فمن يعرف متى يخطر في بالي أن أحمل بولدٍ ثالث!! حسناً، فليسقط العسل ولتسقط الذكورية. يا له من صباحٍ رائع! أنظر إلى ساعتي الجديدة، تنبّهني من جديد إلى ضرورة التنفّس بعمق.

أعود إلى كنبتي وأتركها تحضنني، فيما أوجّه نظري إلى شاشة اللّابتوب المفتوح أمامي. أجيب على إيميلٍ ثم أفتح الواتساب حيث الرسائل تنهمر كرصاصاتٍ تمكّنتُ حتى اللحظة من تفاديها. أبدأ بالردّ على رسالةٍ تلو الأخرى. في يد كلّ من طفليّ جهازٌ إلكترونيّ يلهيهما لدقائق متواصلة عنّي. ألّا أسمع "ماما"، كلّ ثلاث ثوانٍ، أصبح حلماً في نظري، ولم أعد أقيم وزناً لمنعهما عن الأجهزة الإلكترونيّة. "روبلوكس، فليكن!". "ماينكرافت، لمَ لا؟". "يوتيوب، لا يهمّ!". من عايشني قبل وباء كوفيد، يكاد لا يتعرّف إليّ الآن. كان منزلنا مكاناً لا يسمح أبداً بالتسمّر أمام الشاشات، وها هو المشهد المنشود في بيتنا قد غدا عبارةً عن ثلاثة رؤوس تحدّق في الشاشات.

تناديني قطّتاي لأطعمهما. نواءٌ يقتحم لحظة هدوئي. القطّتان هديّةٌ أيضاً من زوجي، قبل 10 سنواتٍ على الأقلّ، حين كنت أعاني من فوبيا الحيوانات، فكان متوقّعاً لتبنّي قطةٍ صغيرة أن يفكّ تلك العقدة لديّ. تصفّحنا صفحة في الإنترنت لجمعيّةٍ تنظّم تبنّي الحيوانات واخترت قطّةً طفلةً رفّ لها قلبي. ذهب زوجي ليحضرها فأعلموه هناك أن لهذه القطّة رفيقاً لا تفترق عنه، فأحضر القطّتين. سعدت كثيراً يومها، لكنّني في هذه اللّحظة أشعر برغبةٍ في لبطهما. عوضاً عن ذلك، أطعمهما وأتأكّد أن لديهما ماءً كافياً وأعود إلى كنبتي.

تنبيهٌ جديدٌ من ساعتي الذّكية مرفقٌ بنجومٍ ومظاهر احتفاليّة: "برافو، لقد تحرّكتِ جيّداً اليوم". لكأنّني لا أنشد "الترنخة" بنفسها في هذه اللحظات! يقطع حبل أفكاري صوت تحطّم زجاجٍ على الأرض. أنظر باتجاه الصوت، إنه صغيري أوقع كأساً كانت على الطاولة فتكسّر زجاجها في كافة أرجاء الغرفة. في اللّحظة التالية، تطلق صغيرتي العنان لمصارينها وتنادي: "ماما بدّي فوت عالتواليت".

الساعة لم تتعدَّ العاشرة صباحاً. أغمض عينيّ، أتنفّس بعمقٍ يجعل بطني ينتفخ. ينتفخ وينتفخ كالبالون، قبل أن يخرج الهواء منه رويداً رويداً، فلا "يفقع". الزجاج على الأرض. هاتفي يرنّ، فترنّ الساعة الذكيّة معه. ابنتي تناديني لأساعدها في تنظيف نفسها. ابني تحت الطاولة حيث تعوّد الاختباء كلّما أراد التغوّط في حفاضه الذي سأنّظفه له بعد قليل. وأنا أفكّر في هذا المقال.

فجأةً يفرغ بطني من الهواء، فيصدر عنّي أزيزٌ غريبٌ، بل طنينٌ مألوفٌ سمعته مراراً من قبل. أحاول التنبّه أكثر للصوت للتأكّد ممّا أسمع ومن أنه يصدر عنّي. تنظر إليّ قطّتاي بغرابةٍ شديدة. الأنثى بينهما تحاول مهاجمتي. أشعر أنها تريد التقاطي. يزداد طنيني أكثر، فيختفي رنين الهاتف، أصفق بأجنحتي الأربعة وأطير في أرجاء الغرفة، ومنها إلى الحمام، فالغرفة من جديد... أين ذهب الزجاج؟ من ساعد ابنتي في تنظيف نفسها؟ ومن غيّر لطفلي حفاضه؟
"لا تقلقي"، تساورني نفسي، "إنّه مجرّد صباحٌ عاديّ في حياة نحلةٍ عاملة". 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024