ماكرون يسترجع العقيدة الديغولية الميترانية.. وعَينُه على الانتخابات

حسن مراد

السبت 2020/09/05
حظيت جولة إيمانويل ماكرون في لبنان والعراق بتغطية صحافية لافتة خلال الأيام الماضية. ورغم أن هذين البلدين يواجهان التحديات ذاتها، انقسامات داخلية حادة من جهة، وصراع نفوذ إقليمي-دولي من جهة أخرى. إلا أن الصحف اختارت مقاربة كل زيارة، من زاوية مغايرة. فعندما حط الرئيس الفرنسي في بغداد، أجمعت العناوين على أنه أتى لدعم "السيادة العراقية"، في اختلاف جذري مع العناوين التي صاحبت زيارته الثانية إلى لبنان والتي اتهمته بالتدخل في الشأن اللبناني الداخلي.

وحتى لو لم تشر الصحف إلى تلك المسألة على نحو مباشر، إلا أن عناوينها دلت على ذلك: صحيفة "La Tribune" عنونت في هذا الإطار "ماكرون روّج لخريطة طريق إصلاحية". من جهتها اعتبرت "Le Parisien" أن ماكرون "يسعى إلى تحريك الطبقة السياسية"، أما "Le Monde" فكانت أكثر حدة: "ماكرون يعلن تشكيل الحكومة اللبنانية في غضون 15 يوما". ناهيك عن البلبلة التي أثارها جورج مالبرونو عبر صفحات "Le Figaro" وكلامه عن مسعى فرنسي إلى فرض عقوبات على مسؤولين لبنانيين، ما أجبرهم على الإسراع في تكليف مصطفى أديب لرئاسة الحكومة.

على أن التفاعل الإعلامي مع هاتين الزيارتين ليس إلا انعكاساً لنشاط دبلوماسي فرنسي ملفت شكلاً ومضموناً. ومن البديهي القول أن ماكرون يسعى إلى تعزيز الدور الفرنسي في المنطقة للحفاظ على مكانة بلاده الدولية. لكن ما يمكن التوقف عنده أيضاً، هو منهجية عمل الدبلوماسية الفرنسية في عهده والتي تشير إلى إعادة تبني العقيدة الديغولية – الميترانية في السياسة الخارجية (نسبة للرئيسين الفرنسيين شارل ديغول وفرنسوا ميتران).

وبحسب أكاديميين ودبلوماسيين فرنسيين، يمكن تلخيص هذه العقيدة في أربع نقاط: تفادي التماهي الكامل مع السياسة الأميركية، فتح قنوات اتصال مع جميع الأطراف، المساهمة في إحلال السلام، واستخدام الثقافة الفرنسية كأداة لفرض النفوذ.

وبلغت هذه العقيدة أوجها العام 2003 حين عارض الرئيس السابق جاك شيراك، الغزو الأميركي للعراق، لكن نجمها أفل تدريجياً مع نيكولا ساركوزي بعودة فرنسا للقيادة العسكرية لحلف الشمال الأطلسي، ثم فرنسوا هولاند بامتناعه عن توجيه ضربة لنظام الأسد بعد الموقف الأميركي، ما أدى إلى انحسار النفوذ الفرنسي دولياً، لأن فرنسا على مستوى السياسة الخارجية لا تعرف ازدواجية اليمين واليسار، بل الديغولية – الميترانية مقابل التوجه الغربي – الأطلسي.

ويلمس ماكرون العوامل التي أفضت اليوم إلى تراجع في النفوذ الأميركي، ما حثه على دفع بيادقه إلى الأمام: ففي لبنان، لم تحظَ التسوية الفرنسية بمباركة أميركية، خصوصاً أن باريس تبدي انفتاحاً على "حزب الله" ولا تمانع تأجيل النقاش في ما يخص سلاحه، في أوضح دليل على اختلاف الرؤى بين الإليزيه والبيت الأبيض. يضاف إلى ذلك، دعم المدارس الفرانكوفونية خلال زيارة وزير الخارجية جان إيف لو دريان للبنان، قبل أسبوع من انفجار المرفأ، في تجسيد لتوجهه الديغولي - الميتراني. 

في المقلب العراقي، تنوي باريس الاستفادة من الاستعدادات الأميركية للانسحاب التدريجي من العراق، لتعزيز مكانتها، مستفيدة أولاً من الموقف الرسمي الفرنسي العام 2003، وهو موقف مازال يُنظر إليه بإيجابية كعنوان لدبلوماسية تسعى لدرء النزاعات، وثانياً من العلاقات التاريخية التي جمعت البلدين خلال العقود الماضية، وأخيراً تعويل مصطفى الكاظمي على دور فرنسي للجم صراع النفوذ الإيراني–الأميركي على أرض بلاده.

إلى ذلك، تدرك باريس انكفاء النفوذ السنّي في هذين البلدين، انكفاء يغري الدبلوماسية التركية بملء هذا الفراغ، ما يدفع بباريس إلى محاولة تجنب هذا السيناريو في ظل الصراع المحتدم حالياً مع أنقرة في منطقة شرق المتوسط.

ولا يخطئ من يعتبر أن دبلوماسية ماكرون تحمل أيضاً ملامح من جاك شيراك، لناحية السعي إلى فتح آفاق جديدة أمام النفوذ الفرنسي. في المقابل، لم يكتف ماكرون بإعادة تدوير سياسات أسلافه، بل استكملها بلمسة شخصية: فالرئيس الفرنسي يوظف كل ما ذُكر آنفاً لصالح عودة فرنسا إلى سابق عهدها كقوة عظمى، رافضاً الخضوع لواقع أن بلاده قوة متوسطة الحجم.

ولعل السير في هذا الطريق سيدفع تلقائياً إلى طرح المعضلة القديمة الجديدة: هل تمتلك فرنسا القدرة على بلوغ هذا الهدف؟ فالإمكانات الفرنسية محدودة، خصوصاً على المستوى المالي، وهي مفاتيح مازالت تملكها واشنطن والعواصم الخليجية. كما يدرك ماكرون صعوبة التوصل إلى نتائج اقتصادية ملموسة خلال السنتين المتبقيتين من ولايته، لا سيما أن فرنسا مازالت تعاني التبعات الاقتصادية لجائحة كورونا، التي، بالمناسبة، لم تنحسر بالكامل.

وعليه، قرر ماكرون الاستثمار في صورته الرئاسية، إذ يحلو لرؤساء الجمهورية في فرنسا تحويل السياسة الخارجية إلى رافعة لهم، خصوصاً إذا كانوا يعانون مأزقاً داخلياً. فالسياسة الخارجية من اختصاص رئيس الجمهورية، لا الحكومة، وفقاً للعرف السياسي الفرنسي. ويتعزز ذلك بحقيقة مباشرة الأحزاب السياسية استعداداتها لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبروز شخصيات مرشّحة لخوص هذا السباق. صحيحٌ أن السياسة الخارجية لن تكون المفصل في هذا الاستحقاق، إلا أنها ستؤدي دوراً إعلامياً في تعزيز صورة الرئيس المنتهية ولايته.

في المحصلة، مازال يُنظر للحركة الدبلوماسية الفرنسية الأخيرة على أنها مرحلة مؤقتة، في انتظار جلاء صورة الرئيس الأميركي المقبل. واقع تدركه باريس، فتستغل هذا الفراغ، أملاً في تحقيق موقع متقدم، حتى عودة باقي اللاعبين إلى المشهد.

يبقى أن تواضع الدور الفرنسي لا يعني امكانية إزاحة باريس من المشهد بسهولة، نظراً لعضويتها الدائمة في مجلس الأمن، وامتلاكها قوة نووية، إلى جانب كونها الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي القادرة على التدخل العسكري واسع النطاق خارج حدودها. وحتى على الصعيد الداخلي، لا يمانع الرأي العام الفرنسي أن تعزز بلاده نفوذها الدولي، بغض النظر عن تباين الآراء حيال شكل هذا النفوذ وأدواته، ما يسهل على أي رئيس فرنسي اتباع هذه السياسة من دون الاصطدام مع الداخل.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024