أم رامي.. يوم كنتُ شيوعياً

وليد حسين

الأربعاء 2019/12/18
لوهلة ظننتها امرأة فلسطينية تحمل الحجارة لرشق العدو الإسرائيلي. لكني عندما قرأت اسمها، تعرفت إليها على الفور. هي وفاء إسماعيل (أم رامي)، أخت شهيدة "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، يسرى إسماعيل، وأخت الصديق حسين، الذي لم ألتقِ به منذ سنوات.

عندما رأيت ُصورتها تحمل الحجارة لمواجهة الشبيحة الذين أتوا لحرق خيم المعتصمين في كفرمان، عادت بي الذاكرة أكثر من عشرين عاماً إلى الوراء. حينها، كنت أزور زوطر بشكل أسبوعي تقريباً، وأنام في بيت صديقي حسن، ونذهب لقضاء الليل عند أبو رامي، نتحدث في شؤون الحزب الشيوعي وكيفية إعادة دوره كحزب ثوري للطبقة العاملة.

كنا في مراهقتنا الثورية، شغوفين بأفكار مهدي عامل الذي واظبت على حفظ مقاطع من كتبه، لمقارعة الإصلاحيين في الحزب آنذاك. وكانت زوطر ملاذنا، نحن الثوريين الباحثين عن الشيوعيين الجنوبيين لملاقاتنا في أفكارنا الثورية التي هجرتُها في السنوات الأولى للألفية الجديدة. إذ بدأت مسيرة انفكاكي عن الحزب الشيوعي اللبناني، وعن الشيوعية لاحقاً، عندما بدأت تراودني وتتقاذفني أفكار المواطنة وحقوق المواطن الفرد الذي يعيش في بلد تطبِق عليه الطائفية، وتنهش الجماعات المرصوصة حقوقه الشخصية، فتلغيها وتفرض عليه نمط عيش وقوانين مقولبة وسلوكاً مقولباً، تلغيه وتهمشه، ولا خلاص له منها.

صورة أم رامي أعادتني إلى تلك الليالي في زوطر، ومآدب الغداء والعشاء، وكرم ضيافتها وكرم أهل زوطر. شيوعيون بسطاء يحلمون بدولة فيها عدالة اجتماعية تنهي عذاباتهم والفوارق الطبقية مع الأغنياء. فما زلت أذكر بيتها المتواضع، حيث كانت تقضي النهار في "شك الدخان" أسوة ببقية الجنوبيين الذين يتكبّدون تعب سنة كاملة في هذه الزراعة لتحصيل لقمة عيش من هنا أو تعليم أولادهم من هناك.

ولزوطر حكايات طويلة مع "المقاومة"، ليس كونها بلدة قدمت الشهداء والمعتقلين في الصراع مع العدو الإسرائيلي وجيشه اللحدي، بل في الحلم الذي بقي يروادهم في استعادة دور الحزب الشيوعي في "المقاومة" في تسعينيات القرن المنصرم، أي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد الحزب الشيوعي ومنعه من مقاومة إسرائيل بقرار سوري قضى بتطويب المقاومة لحزب الله.

عندما هجم الشبيحة على خيم كفرمان، لم تجد أم رامي غير الحجارة للرد على محاولة الاعتداء عليهم. هم الذين ينتفضون ضد الطبقة السياسية الفاسدة التي أفقرت جميع اللبنانيين وسمحت للمصارف بحجز أموال الموظفين، وممارسة أفعال السلبطة والتشبيح، جعلت المواطنين يستجدون موظف المصرف لسحب مئة دولار إضافية من أموالهم لشراء الدواء أو تكفل مصاريف علاج وغيره.

وأم رامي، مثل بقية النساء اللواتي أتين من النبطية ودير الزهراني وحبوش... يعرفن عن كثب تاريخ مَن هاجمهم بالتنكيل بالشيوعيين واغتال قادتهم خلال الحرب الأهلية. ولم يبق أمامهن إلا تلك الحجارة للتصدي لشبيحة الثنائي الشيعي الذين قد يكون أهلهم من جيران أم رامي وغيرها من النساء اللواتي كن يدافعن عن الخيمة، ويعانون مثلهن الفساد والهدر الذي وصلت مستوياته إلى سلب اللبنانيين حتى لقمة عيشهم.

لقد كانت أم رامي، بتلك الحجارة، تمارس فعل المقاومة الحقيقي، مثل بقية النساء اللواتي خرجن للتصدي لصبية الميليشيات التي أفلتت أيدي أزلامها لسلب ونهب أموال اللبنانيين، تنفيعاً وسمسرات ومقاولات لزبائنهم والمحظيين، وصادرت الحياة السياسية والاجتماعية في الجنوب باسم الدين والمقاومة. ويجهد هؤلاء الشبيحة اليوم في كمّ أفواه الجنوبيين ومنعهم من المطالبة بالعيش الكريم، أو حتى التعبير عن وجعهم، بحملة بلطجة، لأنهم تجرّأوا على رفع الصوت في وجه "أستاذهم" وقالوا له بأعلى صوتهم "كل زعرانك ع صبّاطي".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024