ما لا يظهره فيديو اغتيال جو بجاني

قاسم مرواني

الثلاثاء 2020/12/22
جميع اللبنانيين شاهدوا مقطع فيديو اغتيال جو بجاني. انتشر في وسائل التواصل، عرضته نشرات الأخبار وتناقلته مجموعات "واتساب". البعض شاهده بهدف الحشرية لا أكثر، لكن هذا لا يعني أنه لم يكترث. ما لا يظهره الفيديو جال في روؤس الجميع. 
إستيقظ جو بجاني في الصباح الباكر، شرب قهوته برفقة زوجته، تناول طعام الافطار مع بناته، شذّب ذقنه وارتدى ثيابه، مثله مثل أي لبناني صباح ذلك اليوم، لديه زوجة وأطفال وحياة رتيبة، مملة ربما، لكنها الآن أصبحت تشكل حلماً للكثيرين. 

خرج جو من منزله وتوجّه نحو سيارته استعداداً لنقل بناته إلى المدرسة، يظهر الارتياب في خطواته الحذرة والتفاتاته يميناً ويساراً قبل أن يصعد إلى السيارة، كأنه شعر أن هناك شيئاً غير عادي سيحرمه تلك الحياة الرتيبة والمملة، الحياة الحلم لكل لبناني يعيش على مشارف العام 2021. 

صعد جو إلى سيارته، تبعه رجل مجهول، خمسيني ربما، مهرولاً، ليس ارتباكاً ولا استعجالاً، بل أراد أن يباغته قبل أن ينتبه لوجوده، أرادها أن تكون عملية صامتة ذات صباح هادئ. 
فتح باب السيارة وأطلق بدم بارد طلقتين من مسدس مزود بكاتم صوت. كان وجه القاتل، المحتجب خلف كمامة تقيه فيروس "كورونا"، آخر ما رآه جو بجاني صباح ذلك اليوم. 

تبع القاتل شريكُه في الجريمة، اقترب بكل هدوء وفتح باب السيارة، بحث بين أغراض جو عن هاتفه، ليس بهدف السرقة بالطبع، كان يدرك تماماً ما أتى لأجله وعلى الأرجح يجهل ما يحويه الهاتف ولماذا يجب أن يدفع المرء حياته ثمناً لقطعة إلكترونية صغيرة. ربما لو هدّد المجرمان، جو، بالسلاح، وطلبا هاتفه، لقدمه لهما، لن يحرم ابنتيه الصغيرتين وجوده من أجل هاتف وبضع معلومات، لكن ما هو مخزن في ذاكرة جو لا يمحوه إلا الموت. 

كانا يعرفان بدقة توقيت خروجه وروتينه الصباحي. الوقت الذي يقضيه في السيارة وحيداً قبل أن تحضر الفتاتان، كان قد أصبح مألوفاً لهما. ولعلهما، خلال مناوبات المراقبة السابقة، سمعاه ينادي ابنتيه بإسميهما. لكن ذلك كله ليس مهماً بالنسبة للقَتَلة. هما مجرد مجرمين ينفذان الأوامر، يقومان بما يجيدان فعله، القتل ببرودة أعصاب، كأنهما يقتلان للمرة الألف، ببطء من ملّ أداء المهمة نفسها مرات ومرات. أنهيا عملهما، ثم غادرا بالهدوء نفسه الذي أتيا به، وتواريا عن الأنظار. والباقي تكفّلت به مخيلة اللبنانيين. 
لمن سلّم القاتلان الهاتف؟ من كلّفهما بالعملية؟ ما الهدف من ورائها؟ 


ككل الجرائم في لبنان، سيلفّ هذه الجريمة غموض، سيتحول في ما بعد إلى حَجَر إضافي في بناء أسطورة التاريخ اللبناني، حاكتها بعناية أرواح كل الذين قتلوا وعجزت الدولة عن معرفة المجرم، أو ربما أغفلته. جو بجاني واحد منهم. 
هي قصة إضافية يرتكز عليها المؤمنون بالمؤامرة، لدعم حججهم، أو شهيد يتغنى به الوطنيون، قدّم نفسه على مذبح الوطن في سبيل كشف جريمة انفجار المرفأ، كما حلل البعض وذكرت وسائل إعلام عربية.


لكن ماذا أراد جو بجاني حقيقة؟ أن يكون أسطورة؟ أن يكون شهيداً؟ بطلاً؟ أم مجرد رجل يعيش حياة رتيبة ومملة برفقة زوجته وأولاده ويمارس الروتين نفسه يومياً؟ يقود سيارته ضمن السرعة القانونية، يمشي على الإشارة الخضراء ويقف عند الإشارة الحمراء، من غير أن يحاول يوماً المخالفة أو ادّعاء البطولة، بل يراقب الأحداث تجري من حوله، مكتفياً بتصويرها وتوثيقها قبل أن يتحول هو نفسه إلى حدث توثّقه كاميرا مراقبة. 

بماذا فكّر أي منا حين شاهد فيديو قتل جو بجاني؟ التزمنا الصمت لأننا أصبنا بالذعر، لأن كلاً منا، حين نظر إلى أطفاله بعد مشاهدة الفيديو، أصيب بالذعر، أدرك أن ثمنه في لبنان مجرد رصاصة. 

من يريد أن يكون شهيداً في وطن يسترخص أبناءه إلى هذا الحد؟ لا أحد، ولا حتى القاتل الذي، حين عاد لرؤية أطفاله صباح ذلك اليوم، خاف من المصير نفسه. أو ربما لم يعد لأن أحدهم أراد مسح الأدلة. 

لماذا لم ترتفع الأصوات مطالبةً بكشف الحقيقة؟ لماذا لم يصمد هاشتاغ #جو_بجاني في "تويتر" أكثر من بضع ساعات؟ هل تأقلمنا مع القتل كما تأقلمنا مع ارتفاع الأسعار وانهيار الاقتصاد وسرقتنا وانفجار عاصمتنا وألف مصيبة نزلت علينا؟ ألا نملك سوى بعض النحيب لساعات قليلة في مواقع التواصل قبل أن ننسى ونصمت؟ هل هو الخوف؟ أم التسليم بقوة أعلى منا كشعب وأعلى من الدولة تحكمنا جميعاً، وليس علينا سوى أن ننساق إلى قدرنا، مثل أبقار تُقاد إلى الذبح وقبل أن يحزّ السكين رقابنا، نحاول الاستمتاع بوجبتنا الأخيرة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024