الجنوبيون أعداء أنفسهم

قاسم مرواني

الخميس 2020/05/21
كنت أحتسي القهوة كالعادة على شرفة المنزل، السماء زرقاء والعصافير تزقزق. ثم بدأ الشيخ بخطبة الجمعة عبر مكبر الصوت من مسجد القرية، خطبة سياسية يتحدث فيها عن مشاكل البلد والكورونا والانهيار الاقتصادي. يردّد كعادته الخطاب الرسمي للسياسيين، خطاب حزب الله بالتحديد. يقول أننا نحتاج إلى الصبر وبأن الأزمة الاقتصادية إنما هي هجمة أميركية علينا لتركيع المقاومة، حتى وباء كورونا هو عبارة عن فيروس صناعة أميركية.

هذا الأسبوع، يبدو أن الشيخ انحرف كثيراً عن الخط المرسوم له، نسي أمريكا والغرب وبدأ يهاجم الناس ويحملهم مسؤولية خياراتهم الانتخابية، فهم من أتى بهذه الطبقة السياسية، وعليهم هم أن يغيروها، هاجم التجار وارتفاع الأسعار، وفي صوته نبرة غضب وحقد، فلا بد أن الأزمة الاقتصادية طاولته وعائلته، ليخطب بكل هذه الصراحة والمشاعر الجياشة. ومع ذلك، فإن الشيخ، ككل رجال الدين، لطالما لعب دوراً أساسياً في صياغة لاوعي الناس الجنوبيين وتوجيههم لمعاداة جهات، ومصادقة جهات أخرى.

فكّرتُ في كل الأعداء الذين جرّنا رجال الدين والسياسة لمواجهتهم. في تسعينيات القرن الماضي، كنت أتسكع برفقة أصدقاء يأتون صيفاً من ضاحية بيروت الجنوبية، وقال لي أحدهم يوماً: هل تعلم أن نبيه بري يحلق ذقنه بواسطة الشفرة؟ كيف لنا، نحن الأطفال الذين ينشدون المثالية، ذوي التعريف الساذج للخير المطلق والشر المطلق، أن نحب شخصاً يحلق ذقنه بواسطة الشفرة، في مخالفة واضحة وصريحة لتعاليم الدين والسنّة النبوية؟ كان علينا أن نقف في وجه هذه العلمانية التي تهدد ديننا وتدعو شباننا إلى الانحراف.

في مرحلة لاحقة، انتهى العداء بين "حركة أمل" و"حزب الله"، ولو شكلياً وعلى مستوى القيادات، إلا أن ذلك كان كافياً لنا للكف عن الاهتمام بكيفية حلق نبيه بري لذقنه، أو ربما لأن عدونا التالي بات أشد ضراوة ورعباً. كان نبيه بري، بالنسبة إلى عدونا الجديد، مجرد "شرير صغير" لا يستحق العناء. عدونا الجديد هو رفيق الحريري، "الماسوني". كان هو، وأمين الجميل وجورج بوش، ومعهم كل من يقف ضد مشروعنا المقاوم، جزءاً من الماسونية العالمية. كانوا قد أتوا لخدمة المشروع الصهيوني وتوطين اللاجئين وعقد معاهدة سلام مع اسرائيل في مقابل سداد ديوننا.

مع رحيل رفيق الحريري، باءت جهود الماسونية بالفشل، لكن أعداءنا لم يكفوا عن محاولة القضاء علينا. جاء فؤاد السنيورة، بالتعاون مع إسرائيل وأمريكا والدول العربية، بحرب 2006، لتهجير الشيعة إلى العراق. قالوا لنا أن خيمنا هناك كانت جاهزة. بالطبع، لا داعي لأن يدقق أحدنا في الخبر. هي معلومات موثوقة دائماً، كحلاقة نبيه بري لذقنه بالشفرة، وماسونية رفيق الحريري. أحببنا قطَر لأنها وقفت إلى جانبنا، ثم كرهناها في العام 2010 عندما وقفت في صف الثورة السورية. في ذلك الوقت، كنا قد وضعنا الطائفة السنية كلها في خانة الأعداء.

وكما لعبة "سوبر ماريو"، حيث ننتقل من مرحلة إلى أخرى، ومن وحش إلى وحش أشد بطشاً، كنا ننتقل من عدو إلى عدو. المسؤول عن بؤسنا هو بالضرورة شخص آخر، عدو. منذ فترة، كان سعد الحريري والحريرية السياسية، ثم بالأمس أصبحنا في مواجهة من اعتقدنا أنه الوحش الكبير، الأشد ضراوة، المرحلة الأخيرة قبل تحرير الأميرة: رياض سلامة. حتى بسطاء القرية، كانوا يكيلون له الشتائم، من دون أي معرفة إقتصادية مسبقة. من دون التدقيق في أي من الأخبار التي تصلهم عنه. مجدداً، كان فساد رياض سلامة، كماسونية رفيق الحريري، ومؤامرة فؤاد السنيورة، وحلاقة نبيه بري لذقنه. أشياء لا جدال فيها. كل مصائب لبنان سببها رياض سلامة، رأس المؤامرة ضد الشعب والوطن والمقاومة. شتمناه، تظاهرنا ضده، هاجمناه ثم فجأة قالوا لنا أنه ليس العدو، وصدقناهم. عدنا نتخبط من جديد، نبحث عن المسؤول الذي سنحمله مسؤولية فقرنا ونهاجمه، نحن الذين اعتدنا الأعداء في حياتنا، بتنا عاجزين عن العيش من دونهم.

كان عليهم فقط أن يشيروا إلينا ناحية العدو، لنبني متاريسنا في مواجهته. كنا عبارة عن مقاتلين، ننقل البندقية من كتف إلى كتف، من عدو إلى عدو، وكل مصائبنا كانت نتيجة مؤامرات يحيكها ضدنا الماسونيون والإرهابيون وأمريكا والكون. في خطبة الجمعة، لهذا الأسبوع، واجه الشيخ الناس بنسخة مختلفة للحقيقة: ليست أمريكا ولا الصهيونية، إنما أنتم سبب بؤسكم حين انتخبتم من يسرقكم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024