الكورونا إن أفضت إلى نظام عالمي جديد..

حسن مراد

الجمعة 2020/04/03
في خضم ما يواجهه العالم من تحديات بفعل أزمة فيروس كورونا، أكدت جهات رسمية عديدة أنها ستستخلص العِبر من هذه المحنة. إشارة واضحة إلى حجم الخلل الذي أضاء عليه هذا الفيروس، خلل في المنظومة الصحية والاقتصادية والسياسية لبعض الدول، ما يؤشر إلى تحولات منتظرة في السياسات العامة لعدد من الحكومات.

لكن انعكاسات كورونا قد لا تتوقف عند هذا الحد، حيث بات هناك شبه إجماع في الأوساط الأكاديمية والصحافية على أن المناخ الدولي المرافق للفيروس المذكور ليس إلا مخاض ولادة نظام عالمي جديد، وإن تباينت الآراء حول ملامحه. فمثلما أدت الحرب العالمية الثانية إلى نشوء نظام القطبية الثنائية، ليتحول إلى الأحادية القطبية عقب انهيار المعسكر الاشتراكي، تُطرح تساؤلات عما إذا كانت الكورونا ستزحزح الولايات المتحدة عن عرشها لصالح الصين.

وفقاً لموقع "The Conversation" لا يمكن لأي دولة فرض نفسها كقوة عالمية بالاستناد حصراً إلى نفوذها العسكري والاقتصادي والتكنولوجي. مثل هذه المكانة تفرض على الدولة المعنية التضحية طوعاً بمصالحها الداخلية، لتحقيق مكاسب على المستوى العالمي. مجلة "Foreign Affairs" لم تكتف بتبني هذا الرأي، بل زادت عليه أن الولايات المتحدة استمدت "شرعيتها العالمية" من القدرة على تنسيق وقيادة الجهود الدولية في الأزمات.

ذِكرُ الكلام أعلاه لم يكن عن عبث، فمع دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ورفعه شعار "أميركا أولاً" انطوت الولايات المتحدة على نفسها ولم تعد تكترث للجهود الدولية المشتركة، المثل الفاقع هو انسحابها من اتفاقية باريس للمناخ.

هذا الانطواء يفسر في جزء منه افتقاد واشنطن إلى حسّ المبادرة الدولية لحظة انتشار فيروس كورونا، خلافاً لما جرى قبل ست سنوات، حين بادر باراك اوباما إلى حشد الامكانات الدولية للتصدي لفيروس إيبولا. حتى أن قرار تعليق الرحلات الجوية مع القارة العجوز اتُخِذ بصورة منفردة من دون التشاور مع الحلفاء الأوروبيين أو حتى إبلاغهم مسبقا. بالتوازي، اشارت الدلائل إلى تخبط الولايات المتحدة بعد تفشي الفيروس على أراضيها بعدما اتضح عجزها لا سيما على الصعيد الطبي.

بالمحصلة، أنتج هذا الواقع فراغاً سعت الصين إلى ملئه من خلال "الديبلوماسية الصحية". ورغم الإجماع الدولي على سوء إدارة بكين للأزمة، ما ساهم في تحويل الكورونا إلى وباء عالمي، إلا أنها نجحت في محو تلك الصورة: ففيما تجاهد دول العالم لاحتواء الفيروس على أراضيها، بدأت الصين حصدَ ثمار اجراءاتها رغم عدم تجاوزها للأزمة بالكامل.

الفارق الزمني في انتشار الفيروس صبّ في مصلحتها، ففي عز حاجة بعض الدول للمساعدة كانت الصين قد استوعبت ما حلّ بها، وباتت في موقع يسمح لها بمد يد العون للخارج. صحيحٌ أنها تلقت أطناناً من المواد الطبية بداية الأزمة، لكن بكين ردت بالمثل ما يعني إعادة فرض شيء من التوازن في العلاقة مع هذه الدول.

هذه الدبلوماسية الصحية، عكست ملامح القوة الصينية الصاعدة والساعية إلى تسويق نموذجها في التعامل مع انتشار كورونا. نموذج يعتمد على أجهزة الدولة والحزب الحاكم في فرض تدابير صارمة يتجاوب معها الصينيون إجبارياً انطلاقاً من إعلاء المصلحة العامة (والخوف؟) ووضعها فوق أي اعتبار. 

علاوة على ذلك، لا تدخر الصين جهداً في تصدير قطاعها الصناعي الذي أثبت قدرة على التأقلم مع الظروف الاستثنائية، مضاعفاً إنتاجه لتزويد السوق العالمية بحاجتها من الكمامات الواقية والأجهزة الطبية. حتى في مجال الريادة الطبية تحرص الصين على إثبات حضورها إذ لم تكتف بإرسال المعدات، بل ابتعثت معها كوادر طبية، دون الحديث طبعاً عن جهودها في مجال الأبحاث والاختبارات لإيجاد علاج للفيروس.

والحال أنه بمجرد تباطؤ النشاط الاقتصادي الصيني بفعل الإجراءات الوقائية، اتضح حجم ارتباط الاقتصاد العالمي بعجلة الإنتاج الصينية. وباختصار، دلت أزمة الكورونا على حاجة العالم للصين.

ويتيح تربُع دولة ما على عرش النفوذ العالمي، لها تلقائياً تصدير نموذجها في إدارة الشؤون الداخلية وهنا تكمن الخطورة برأي عدد من الصحافيين. فمد الصين يد العون لعدد من دول العالم، لا يلغي مسؤوليتها عن انتشار الفيروس: منظمة "مراسلون بلا حدود" أشارت إلى الطبيعة الاستبدادية لنظام  بكين ما دفعها بداية الأمر للتستر عن الخبر، يضاف إلى ذلك حرية الصحافة المفقودة التي كان بوسعها التنبيه للخطر القادم. 

من ناحية أخرى، طُرحت علامات استفهام كبيرة حول عدد من التدابير الصينية. على سبيل المثال، بعض التطبيقات الرقمية أتاح للسكان معرفة ما إذا احتكوا، خلال الأيام الثلاثين الماضية، بأحد المصابين بكورونا، خصوصاً في وسائل النقل العام. هذا التدبير برهن دون شك عن فعالية سمحت بحصر الإصابات من دون اللجوء لحجر صحي في عموم البلاد. لكن ألا تثير هذه التقنية القلق إذ تتيح للأجهزة الأمنية خرق خصوصية المواطنين في بلد لا يتمتع بمناخ من الحريات؟ يُخشى إذاً أن تتحول هذه الأزمة إلى منصة لتشريع تلك الممارسات التسلطية إذا ما استتب النظام العالمي للصين.

البعض حاول التخفيف من وطأة هذا السيناريو بافتراض أن مركز الثقل العالمي لن ينتقل للصين، بل لمنطقة جنوب شرق اسيا برمتها مستندين في ذلك إلى نجاح أنظمة ديموقراطية، كاليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، بدورها في التصدي للكورونا. اجتهادٌ لا يلغي أن الصين هي الحلقة الأقوى في محيطها الجغرافي.

التحول المحتمل في مركز القوة العالمية يقاربه بعض الباحثين والصحافيين بحذر شديد. كل ما سبق ذكره لا يعني برأيهم أفول نجم الولايات المتحدة، ما جرى أن الصين سدت فراغاً ولم تزحزح غريماً لها. فواشنطن مازالت تملك القدرة على أخذ زمام المبادرة، وتراخيها هي ورقة الصين الرابحة في الوقت الراهن.

لكن آخرين يتبنون وجهة نظر مغايرة تماماً. ففي حديث لمجلة "Foreign Policy" اعتبر ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في هارفرد، أن التأثير الحقيقي لفيروس كورونا ليس انتقال الثقل العالمي من الغرب للشرق بل إمكانية دفع الدول للتركيز على إدارة أزماتها بنفسها بدل البحث عن تعاون دولي، في إشارة منه إلى فقدان الثقة بدور الولايات المتحدة كقطب عالمي وبالتالي احتمال العبور نحو عالم أقل انفتاحا على بعضه. 

وتوافقه الرأي شانون اونيل، نائبة رئيس مجلس العلاقات الخارحية في الولايات المتحدة، إذ تتوقع أن تدفع الحكومات نحو تعزيز انتاجها الداخلي بدل الاعتماد على موردين خارجيين في إشارة أخرى إلى الإفراط في الاعتماد على الإنتاج الصيني. بمعنى آخر لن تتردد دول في حث شركاتها على التضحية بجزء من أرباحها المادية (عدم السعي خلف تخفيض كلفة نفقاتها) لصالح تأمين الاستقرار.

"اتركوا الصين نائمة، إذا استيقظت فالعالم بأسره سيهتز" مقولة تنسب لنابليون بونابرت. بعيداً من صحتها التاريخية، يبدو أنها أكثر ما يصح في معرض استشراف ما بعد كورونا.  فمثلما كان القرن التاسع عشر أوروبياً والقرن العشرين أمريكياً، دفعت أزمة كورونا للتساؤل عما إذا كان القرن الحادي والعشرين آسيوياً وعلى وجه التحديد صينياً.

بكل الأحوال، قانون التاريخ لا يسمح لأي قوة أن تتربع إلى ما لا نهاية على عرش العالم، فهل عندما يحين أوان تأريخ النفوذ الأميركي، ستحجز أزمة كورونا مكاناً لها على لائحة أسباب و/أو مؤشرات السقوط؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024