وعكة الأسد: شاهِدوا كم أنا مرهق من أجلكم!

وليد بركسية

الخميس 2020/08/13
لسنوات طويلة قبل وفاته العام 2000، عانى الرئيس السوري حافظ الأسد من مرض سرطان الدم، لكن النظام البعثي القائم على فكرة الأسد للأبد، حجب أي معلومات تتعلق بمرض "القائد الخالد"، كجزء من سياسة اعتمدها النظام طوال عقود وأسهمت في خلق هالة أسطورية للأسد الأب أمام السوريين بشكل خاص. وفيما انكسرت تلك الهالة القديمة جزئياً مع الكشف عن إصابة أسماء الأسد، زوجة الرئيس الحالي بشار الأسد بالسرطان، العام 2018، فإن دعاية النظام حافظت على موقف ثابت من الرئيس، كشخص يتخطى الحدود البشرية ويبدو أقرب للآلهة.

وبغض النظر إن كان ما تعرض له الأسد خلال إلقاء خطاب روتيني أمام مجلس الشعب الجديد، من انخفاض مفاجئ في ضغط الدم، حقيقة أم مجرد مسرحية دعائية موجهة إلى طبقة الموالين، فإن تقديم ذلك على الشاشات الرسمية وفرد مساحة للحديث عنه، يظهر كيف بات النظام بارعاً، أكثر من أي وقت مضى، في التلاعب بالرأي العام، المحلي والعالمي، عبر السوشيال ميديا. وهي لعبة كان يخسرها في السنوات الأولى من الثورة السورية، لصالح المعارضين.



واللافت في حادثة الأسد الصغيرة، مساء الأربعاء، هو التمهيد لها، فطوال الصباح كان الحديث في الصفحات الموالية يدور حول كلمة مرتقبة للأسد أمام البرلمان الجديد، الذي أطلق عليه السوريون تسمية "مجلس الحرب" عطفاً على وصول نحو 20 من قادة الميليشيات المحلية إليه إثر الانتخابات التي لم تشهد إقبالاً جماهيرياً واسعاً، ورغم أن خطابات الأسد المماثلة تبث بشكل مباشر من أجل تصدير التطبيل والتصفيق للجمهور المحلي، فإن مُعرّفات الرئاسة في مواقع التواصل، نشرت معلومات لاحقة تفيد بأن الكلمة ستكون مسجلة وستبث في وقت لاحق عبر الإعلام الرسمي، قبل الكشف عن عارض صحي ألم بالأسد خلال الكلمة، ما فتح باب التكهنات والشائعات والأخبار الكاذبة، على مصراعيه.

وهنا، كان بالإمكان الالتفاف على ما ألم بالأسد بعملية مونتاج بسيطة، من دون إثارة الانتباه إلى حالته الصحية أو إثارة الخوف عليه أو كسر هالته كقائد ملهم لـ"الدولة السورية" وجماهير الموالين، إلا أن الإبقاء عليها، يعطي لمحة عن كيفية صناعة الدعاية الأسدية بعد عقد كامل من الثورة السورية التي طالبت بالتغيير السياسي والإصلاح. وهو تغيير يرتبط بشكل أساسي بالسوشيال ميديا والتطور التكنولوجي الذي غيَّر طبيعة التواصل البشري بشكل كلي عن حقبة الأسد الأب، وأفرز حاجة ملحة لتقديم الأسد بصورة أكثر إنسانية، في مقابل صورته كرجل تسبب بأكبر كارثة إنسانية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

والحال أن الدعاية الأسدية، كانت تصور حافظ الأسد كقائد خالد عتي وجبار لا يطاله المرض أو الموت، وهي صورة كان النظام الناشئ في السبعينيات إثر انقلاب عسكري، والذي تعرض لأزمة في الثمانينيات، بحاجة ماسة إلى خلقها بموازاة "أبديّته"، لأن منصب الرئيس في الدعاية الرسمية كان دائماً رمزاً للنظام بأسره، لكن ذلك تغير مع مرور الوقت، وبات مفهوم الوطن والبقاء في الدعاية فضفاضاً ويحمل العديد من الرموز التي تحمل جانباً إنسانياً، يدغدغ شعور المواطنين المستهدفين بالدعاية، ويعزز التورط العاطفي لديهم والمتمثل بكذبة الانتماء لوطن واحد تنتشر فيه العدالة والقيم النبيلة، ويترصد به الأعداء والأشرار.

ويشير هذا الانتقال مع السلاسة التي يتسم بها تقديم البروباغندا الرسمية، إلى خطورة النظام القابل للتطور، وهي خاصية تراكمية أظهرها النظام منذ العام 1970. ففيما كان النظام متماسكاً على مستوى الخطاب الدبلوماسي بعد العام 2011، إلا أنه كان هشاً على مستوى الضخ للرأي العام عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي كانت منطقة جديدة بالنسبة إليه، وأفرز ذلك أسلوباً جديداً في التعامل مع الشعب السوري، وتقديم "المعلومات" إليه، سواء كانت كاملة أم مجتزئة أم مختلقة، بموازاة تغيير التكنولوجيا لطبيعة تبادل المعلومات عن الأسلوب الذي اعتاده النظام في ثمانينيات القرن الماضي على سبيل المثال، حينما كان في الإمكان الاعتماد على التعتيم والإعلام الرسمي لخلق "حقائق" مزيفة.

وهكذا، تسهم صورة بشار وهو في لحظة ضعف بسيطة خلال خطاب وطني، في خلق تعاطف عام معه، لأن تلك الصورة تنقسم إلى عدة أقسام، فمن جهة تشير إلى تفاني الأسد في السهر على راحة المواطنين وحماية أمن البلاد من المؤامرات الخارجية، لدرجة لم يجد معها الأسد وقتاً كافياً لتناول الطعام ليوم كامل، ما يجعله رجلاً متفانياً يستحق التضحية من أجله "بالروح وبالدم" مثلما يقول الشعار البعثي العتيق. ومن جهة أخرى، فإن عودة الأسد بعد دقائق لمتابعة خطابه متسلحاً بقليل من "الملح والسكر"، تظهره صامداً متحدياً قادراً على تخطي المصاعب، حتى لو كان ذلك على حساب جسده المرهق، من أجل الشعب والوطن. وهو ما تجلي في الضخ اللاحق للخطاب في قنوات الإعلام الرسمي والصفحات الموالية في مواقع التواصل.



بالتالي، لا تصبح قصة وعكة الأسد الصحية، تجسيداً لضعف ما، بل دليلاً على القوة، وذراً للرماد في العيون، في مقابل الغضب الشعبي العام في مناطق سيطرة النظام، بسبب المشاكل الخدمية والاقتصادية المتلاحقة، والتي تكثفت هذا العام مع هبوط سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي، وخروج مظاهرات في مناطق مثل السويداء جنوبي البلاد، بالإضافة للمشكلة المستمرة مع رجل الأعمال رامي مخلوف، والأحاديث المستمرة عن نوايا روسية لاستبدال الأسد مع نهاية فترته الرئاسية العام 2021. وبهذا الأسلوب يتم امتصاص غضب الموالين وتحويله إلى تعاطف وخوف وقلق، وهو أسلوب كلاسيكي في بناء البروباغندا.

يذكر أن الأسد قبل العام 2011، يعتمد على شركات علاقات عامة عالمية ترسم له الصورة الذهنية العامة منها شركة "براون لويد جيمس" الأميركية، فيظهر "فجأة" من دون مرافقة أمنية في دار الأوبرا أو في سوق الحميدية الشهير، وكأنه فرد عادي يمارس نشاطاً يومياً لا أكثر، وليس رئيساً يحكم البلاد بقبضة حديدية. ورغم أن ذلك أعطى الأسد الابن صورة أكثر إنسانية مقارنة بوالده، إلا أنه بقي محافظاً على هالة تضعه فوق بقية السوريين. وبعد الثورة السورية، باتت إطلالات الأسد أكثر ندرة، وانقسمت بين ظهوره كقائد عسكري بين الجنود، أو بين إطلالات "عفوية" تصوره كأب يحمي الدولة والمجتمع.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024