موت "المستقبل".. ليس نهاية مشروع سياسي

نذير رضا

الخميس 2019/01/31
ليست الاستعادة لأبرز أعداد جريدة "المستقبل" منذ انطلاقتها في العام 1999، إلا محاولة لرثاء تجربة غنية، توفيت اليوم وهي في عمر الشباب، خاضت خلال سنواتها العشرين اختبارات قاسية. اهتزت، وصمدت، ولم تسلم الروح الورقية إلا بعدما اختبرت مساوئ التشظي الالكتروني بين مواقع إلكترونية رديفة، سيجري دمجها لعصر النفقات وبث الروح الاعلامية الكترونياً مرة أخرى. 
ليس سهلاً رثاء جريدة مثل "المستقبل" شكلت رأس حربة سياسية عن مشروع وطني. عشية مظاهرة 14 آذار، كانت مكاتب الجريدة تغلي. يتلقى المسؤولون في مكاتب التحرير، قسم المناطق، رسائل المراسلين من كل المناطق عن الاستعدادات. فاكسات وأوراق سمراء، ومحررون يدمجون الاخبار ومسؤولون يشرفون على  العناوين. وهو أمر تكرر يوم حصول التظاهرة في العدد المنشور في 15 آذار 2005. 

لم يكن التعاطي مع التظاهرة كحدث. كانت رأس مشروع سياسي سيادي قادم. يتم تذكر كل التفاصيل الواقعة في عدد 15 آذار، لدى مشاهدة الصفحة الاولى منه في العدد الصادر اليوم. فكل الصفحات الاولى المنتقاة من عمر الصحيفة، والتي أعيد نشرها في العدد الأخير منها اليوم في 31 يناير (كانون الثاني) 2019، تؤكد أن الصحيفة كانت رأس حربة لمشروع سياسي، بما يتخطى الاتهامات لها بأنها صحيفة الطائفة السنية، أو صحيفة بيت سياسي فقط. 

32 صفحة ورقية في العدد الأخير من جريدة "المستقبل" اليوم، لا يُعثر فيها على العدد الاول من الجريدة. يبدأ توثيقها من أحداث 11 ايلول 2011، وتمتد الى وفاة ابو عمار، والغزو الاميركي للعراق. يؤكد ذلك أن الصحيفة لم تكن صحيفة رفيق الحريري الشخصية. هي منصة وطن، ومشروع لم ينفجر اعلامياً على صفحاتها إلا  في عدد 15 شباط 2005، الذي تصدرته صورة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وعبارة "شهيداً من أجل لبنان". ومنه، مظاهرة 14 آذار، ورحيل اميل لحود من القصر الجمهوري، وانطلاق المحكمة الدولية، وأحداث 7 أيار 2008،  وتولي الرئيس سعد الحريري الحكومة الاولى، وبعدها الانتخابات ومفاصل سياسية أخرى في البلد، بينما نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة. 

هذه الاستعادة، ينتقص منها حدثان مهمان، أولهما رحيل الجيش السوري من لبنان في 29 نيسان 2005، والعدد الثاني الذي صدر ظهراً، وتضمن القرار الاتهامي الصادر عن لجنة التحقيق الدولية باغتيال الرئيس الحريري. لكن هذا الانتقاص، ليس إلا تفصيلاً، بالنظر الى ان العدد الأخير، يثبت بما لا يحمل الشك ان الجريدة كانت لسان مشروع سياسي، حتى رمقها الأخير. 

يدور خبر اقفال الجريدة حول الاسباب المالية. ويذهب بعض المغالين الى اعتبار موتها، جزءاً من تغييرات طرأت على المشروع السياسي، بالنظر الى نهاية مشروع 14 آذار، وظهور اصطفافات جديدة. لكن ذلك ينطوي على مغالاة، كون المشروع السياسي الذي تموضع مرة أخرى، مستمر رغم تحولاته. لكن الصحيفة، أي صحيفة، كنسخة ورقية، لم تعد قائدة لمشروع سياسي. ولا حتى الشاشة تقود مشروع سياسي. وحدها مواقع التواصل، والمواقع الالكترونية تستطيع أن تكون ناطقاً باسم التحولات. انه زمن الشاشات اللوحية. 

وحدهم موظفو الاعلام المكتوب، ومن ضمنهم موظفي "المستقبل"، من يستحقون النظر بمستقبلهم. تنبئ الصورة الجماعية التي جمعتهم أمس، أمام باب الجريدة، بموت المهنة ما لم تتحول وفق أسس علمية مدروسة. كتبوا فوق الصورة: "كل ثقة اللبنانيين وثقتنا.. اليوم.. وغداً.. والمستقبل.. مع سعد الحريري فقط". هي صورة ايتام محتملون لمهنة تحتضر. مثل كل الصحافيين الآخرين، يبكون فوق نعش الصحيفة، ويرثون حالهم بغيابها. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024