البحث عن الحرية "لسّا موجود" في بقايا سوريا

وليد بركسية

الثلاثاء 2020/05/19
"من رماد مدننا، من أعماق فجيعتنا والألم، لسا موجود هي صرخة بقائنا على قيد الحياة، ورمز وفاء لمن سبقونا في نضالاتهم"، هي واحدة من العبارات التي يضمها الشعار الأساسي لمجموعة "لسا موجود" السورية المعارضة، التي لا توثق فقط أرشيف الثورة السورية بعد تسعة أعوام على انطلاقها، بل أيضاً تشكل منصة تطوعية تذكر بروح الثورة الأولى، بتوفيرها مساحة، باتت نادرة أمام السوريين لرفع صوتهم مجدداً، والحديث بحرية عن معنى أن يكون المرء سورياً اليوم.

وفيما تؤكد بيانات المجموعة وشعارات المدونة التابعة لها، على استقلال أصحابها عن "الفشلة" في مؤسسات المعارضة السورية، فإنها تسعى دائماً إلى "استقطاب السوريين والأصدقاء على اختلاف مشاربهم، لنبرهن لأنفسنا وللعالم أن الفجيعة لم تقتلنا ولم تقتل فينا زخم الدفاع عن الحرية والكرامة، بل صيرته أقوى"، علماً أن المدونة انطلقت في 24 شباط/فبراير 2019، في ذكرى خلع أديب الشيشكلي، والمعروفة في التاريخ السوري المعاصر بوصفها "ربيع الديموقراطية"، حسبما أوضح القائمون عليها في حديث مع "المدن".

ويضم فريق "لسا موجود" حالياً 18 شاباً وصبية من مختلف المناطق والتوجهات. ويعرفون عن أنفسهم: "نحن من الجيل الذي بدأ الثورة وشهد تحولاتها وصولاً للواقع المأساوي الحالي، شباب في العشرينات من العمر، معظمنا يتابع دراسته في مجالات مختلفة، بعضها على علاقة ما بالشأن العام كالعلوم السياسية والإعلام والتاريخ. ونحن موزعون بين ألمانيا، النمسا، تركيا، بريطانيا، السعودية ولبنان"، كما أن المدونة مفتوحة أمام السوريين الراغبين في الكتابة حول "سوريا، الثورة، الشباب، المستقبل، الهوية، الطائفية، الحرب والسلام، الجريمة والعقاب، الحقوق الفردية، الدولة المدنية، وغيرها من العناوين العريضة التي صنعت وتصنع مجتمعنا الراهن".

ومن اللافت أن التجربة انطلقت بالتزامن مع تراجع في الإعلام السوري المعارض لأسباب تتعلق بالتمويل عموماً، واختفاء الكثير من المدونات الشخصية والمنصات التطوعية المشابهة التي خلقت في سنوات الثورة الأولى جواً غير مألوف في الفضاء السوري العام الذي قيدته السلطة الأسدية البعثية طوال عقود. وكان فريق المدونة ملاحظاً لهذا التغيير المحزن على مر السنوات، وأراد  "إعطاء منصة لمن يود التعبير عن أفكاره، بأية لغة أو أية أسلوب، بما ينسجم ومبادئ المجموعة، للتعبير وإيصال صوته لأكبر حلقة ممكنة".

وأكمل الفريق: "معظم المؤسسات أغلقت. أما ما بقي منها ففقدت ثقة الشارع السوري ولم تعد تعبر عن توجهاته، خصوصاً على المستوى السياسي. لسا موجود هي محاولة اعطاء بديل ضم العالم الافتراضي للسوريين. ورغم أننا بدأنا نشاطنا ضمن العالم الافتراضي، فليس من الضروري أن نبقى محصورين فيه. نحاول حالياً أن نوسع نشاطنا ضمن البلدان التي نتواجد فيها، وفي الداخل السوري أيضاً، كي نقول أن خسارة المعركة على الأرض، أو تراجع الاهتمام الدولي والإقليمي أو حتى المحلي، لا يجب أن ينسينا قضيتنا".

وهكذا، يتقاطع دور المدونة مع وجود السوشال ميديا التي قد توفر المساحة نفسها للأفراد، وربما يلعب الخوف المتجدد لدى السوريين، وخصوصاً الموجودين في مناطق النظام، دوراً في إعطاء الأفضلية النسبية للمدونة الساعية إلى "جمع السوريين في الفضاء الالكتروني ومحاولة نقل أفكارهم وطموحاتهم ووجعهم، ونظرتهم إلى سوريا الحالية والمستقبلية". لكن أصحاب المدونة يعتبرون أن ما يميزهم هو الاستقلالية في الخط، والمساحة الواسعة من الحرية "بالاضافة الى كوننا شباب الجيل الذي صنع الثورة ولدرجة كبيرة صنعته الثورة، يعني بالمختصر: منفهم عبعض".

بموازاة ذلك، تبدو المبادرة أكثر مؤسساتية من كثير من المنظمات الإعلامية التي ظهرت واختفت خلال السنوات الماضية، وتحديداً من ناحية تقديم بيان تأسيسي يضم مبادئ سياسية واضحة، هي أن كرامة الإنسان لا تمس، وأن العدالة أساس الانتقال بالمجتمع للسلام، وأن لا إعادة إعمار إن كانت إعادة اعتراف بالدولة الفاشستية الأسدية، وأن سوريا بلاد منفتحة على الآخر. بالتوازي مع أربع أليات تعمل المجموعة من خلالها على تكريس تلك المبادئ. وهي تشكيل منبر للدفاع عن حقوق السوريين في السياسة والاقتصاد والمجتمع، والتواصل مع السوريين لتشيكل جماعة ضغط تسعى لتحقيق المبادئ السياسية للمجموعة، والتوجه للمجتمعات الغربية بحثاً عن الدعم،وتنظيم حملات موازية عبر مواقع التواصل والإعلام على أرض الواقع.



وبهذا الشكل، تصبح المبادرة أقرب إلى مجموعة سياسية صغيرة منها إلى ناشطين إعلاميين بطموحات سياسية. ويعتقد الفريق أنهم في الوسط بين التصنيفين السابقين: "نحن جماعة سياسية لأن القضية الاساسية التي نعالجها هي قضية سياسية بالمقام الأول والأخير. لكن تركيزنا الحالي ينصب أكثر على العمل الإعلامي والتوثيقي وجمع شتات السوريين. كما أن الطموحات السياسية تحتاج بيئة سياسية صحية وشروطاً موضوعية كالحد الأدنى من الاستقرار والأمن، ونسقاً واضحاً لتداول السلطة، وغيرها. لا يمكن الحديث عن هكذا طموحات والشعب موجود في الخيام أو تحت القصف والبراميل المتفجرة".

ومع دخول الثورة في البلاد عامها العاشر وتوازياً مع كمية الانتهاكات التي تمارس من قبل النظام السوري والجهات الأخرى الفاعلة بحق الصحافيين، بما في ذلك أولئك المحسوبون على الجهات المنتهكة نفسها، يعتقد فريق المنصة أن الدور الذي يجب أن يقوم به الإعلام السوري والمدونون والناشطون اليوم ضمن مجتمع ممزق مثل سوريا، هو "الدفاع عن العدالة كأساس للانتقال بالمجتمع نحو السلام".

يشرف الفريق أيضاً على مشروع مميز في "أنستغرام" منذ 15 آذار/مارس 2019، هو "روزنامة الثورة"، التي تتضمن استعراضاً يومياً لأهم الأحداث في كل سنة من سنوات الثورة. وتشكل الروزنامة جهداً يضاف إلى ما يقوم به الفريق لأرشفة تاريخ الثورة السورية "من وجهة نظر على الأرض". وأوضح الفريق لأن "طوال سنوات الثورة لم يوجد مثل هذا العمل من قبل، بالإضافة إلى الرغبة في التعامل مع الذاكرة السورية وتنظيمها وتحليلها باستعراض كافة الأحداث وكل المواقف التي شكلت الثورة بإنصاف".

View this post on Instagram

في #ذكرى_الثورة_السورية التاسعة، وبعد عام كامل من عملنا على مشروع #روزنامة_الثورة . نقدم لكم هديتنا الختامية، تقويم لعام 2020 تتوسطه بطلة حكاياتنا في #لسا_موجود "طل". وكل ثورة وأنتم موجودون وباقون حتى نحقق الحرية والكرامة. كما بإمكانكم طباعة هذه الصورة كاملة وبدقة عالية من الرابط الموجود في البايو ومشاركتنا بها. .. عذراً إذ أننا قمنا بتعديل خطأ صغير في الصورة في حال قمتم بطباعتها يرجى الانتباه.

A post shared by لسا موجود (@stillthere.syria) on


في ضوء ذلك، تبتعد المنصة عموماً عن مناقشة الأخبار أو تقديم تعليق على الأحداث الراهنة لصالح توثيق التاريخ السوري ومشهدية الثورة السورية، وإن كان أصحابها يشرفون على حملات حدثية ويصدرون بيانات بشأن الأحداث الراهنة من حين إلى آخر. ويعتقد فريق المنصة أن "لسا موجود ليست منصة إخبارية أو منصة شجب وإدانة، لكن في ذكريات معينة أو أحداث مفصلية، خصوصاً الإنسانية منها، فإننا نعبّر عن مواقفنا، بما ينسجم مع مبادئ وطموحات ثورة 2011، وبشكل واضح ولا لبس فيه، سواء عبر بيان رسمي أو منشورات مباشرة في مواقع التواصل".

هذه "الفورما" تخلق شعوراً عاماً بأن الثورة السورية باتت جزءاً من حقبة زمنية سابقة، تتم أرشفة أحداثها للتأكيد على أنها حصلت بالفعل، لكن ذلك ليس دقيقاً تماماً. فالمنصات العاملة على أرشفة الثورة من زاوية حقوقية، تعرضت لهجمات روسية وأسدية حاولت هدم مصداقيتها، كما جرى في حالة "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" العام الماضي على سبيل المثال. ويصبح هذا النوع من النشاط شديد الأهمية من أجل التصدي للسرديات السامة المشوهة، حيث يحاول الطرف الذي انتصر في الحرب بسياسة الأرض المحروقة فرض سرديته عن كل ما جرى في البلاد عبر اختزاله بعبارة "الحرب على الإرهاب" فقط.

ويعتقد فريق المبادرة أن الثورة السورية لم تكن في بدايتها ثورة مفاهيم، بل حركة شعبية للمطالبة بالكرامة والحرية، لكن بعد زيادة التعقيدات في المشهد السوري واستعادة النظام لمساحات واسعة خرجت عن سيطرته، بات يسعى لفرض سرديته المشوهة. وعليه "نعتقد أن على السوريين الدفاع عن قصتهم وسردها بشكل مستمر على منصات التواصل وحتى في المحافل العامة. كما نؤكد أن تطبيع العلاقات ودعم عملية إعادة الإعمار في سوريا وإعادة اللاجئين إلى سوريا، لا يمكن أن تتم في ظل نظام مجرم يخفي في سجونه حوالى 100 ألف معتقل، ويستمر في عمليات القصف والتهجير في شمال سوريا".

ومع مرور سنوات الثورة السورية وانكساراتها وما أفرزته من كارثة إنسانية تقول الأمم المتحدة أنها الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، فإن اسم المشروع نفسه يعكس شيئين بشكل أساسي: "الأول أن السوريين المدافعين عن حرية وكرامة شعبهم مازالوا موجودين، حتى لو كانوا في المهاجر والمنافي. والثاني أن ثمن هذا النضال مازال يدفع، مثلاً، هنالك عشرات الآلاف من المعتقلين والمفقودين وملايين المهجرين والمنفيين".

وأوضح فريق المبادرة هنا أن فكرة المنصة أتت تحديداً "مع بدء ظهور لوائح بأسماء شهداء قضوا تحت التعذيب في سجون النظام، صيف العام 2018. وكان انتشار أسماء الشهداء تحت التعذيب أشبه بالصاعقة: في يوم واحد تبلغت داريا بأسماء أكثر من 800 شاب وفتاة قضوا بطريقة وحشية ضمن عمليات إعدام ممنهجة. ولم يكترث العالم للمحرقة. أردنا كمجموعة أصدقاء نتشارك الأهداف نفسها، أن نعبر عن رفضنا لهذا الواقع، فولدت فكرة لسا موجود، وولد كذلك الاسم".


والحال أن المنصة تضم كثيراً من المواضيع التي تتناول الهوية السورية. ويطرح ذلك أسئلة كثيرة عن وجود تلك الهوية أصلاً، خصوصاً أن الحرب في البلاد أعطت انطباعاً بأن سوريا، كدولة، لم تكن أكثر من وهم، مع تحول البلاد إلى كانتونات طائفية وإثنية متصارعة، تشكل كل منها هوية أكثر رسوخاً من الهوية السورية التي تغيب بسبب انتفاء قيمة المواطنة ضمن النظام السياسي السوري خلال العقود السابقة. لكن الفريق يمتلك وجهة نظر مختلفة: "نحن نحب بلدنا، والأرض التي ربينا فيها، ونعتقد أنه يمكن أن تكون أفضل مما هي عليه اليوم. وسواء كان ذلك ضمن تصنيف واسع كهوية سورية قائمة بذاتها أو كهويات جزئية أكبر وأصغر، فإنه لا يغير في الواقع شيئاً. نعتقد أيضاً بما يشبه الاجماع، أن بلادنا غنية ثقافياً وضاربة في التاريخ حضارياً، وذلك شيء يستحق الاحتفال به واستذكاره، ولهذا نحاول في نشاطاتنا الإضاءة على جوانب تاريخية وثقافية من ماضي سوريا".

وأكمل فريق المنصة: "بخصوص معنى أن يكون المرء سورياً، لا يوجد قالب واحد يُمكن أن يوضع الجميع فيه بشكل عام حول العالم، وهذه الحالة أكثر وضوحاً في سوريا بنتيجة الحرب وظروفها، بالاضافة إلى حالات التشتت الناجمة عن الحرب. رغم ذلك، يمكن الحديث عن نظرتنا للهوية السورية كيف يمكن أن تكون، وكيف نريدها أن تكون، بوصفها رابطة مدنية تجمع بين مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات ويتمتعون بالحرية والعيش الكريم".

ومع التسليم بأن تطلعات السوريين للديموقراطية والحرية مازالت موجودة، بموازاة تدهور الوضع الاقتصادي في مناطق سيطرة النظام، يتفاءل كثيرون بأن مرحلة ثانية من الثورة السورية آتية بلا شك، خصوصاً أن البلاد شهدت مظاهرات نادرة مطلع العام في محافظة السويداء وحوادث اغتيال متكررة في محافظة درعا، بينما يعتقد البعض الآخر أن أمر السوريين لم يعد في أيديهم، مع تحول قضية البلاد إلى قضية تتحكم بها الدول الأجنبية.

وقال فريق المنصة هنا: "صحيح أن ناصية الأمر اليوم ليست في أيدي السوريين، رغم أن جميع ما يحصل، يحصل تحت يافطة الدفاع عنهم. هذا التغول الدولي باسم السوريين، للأسف، سيحتاج نَفَساً طويلاً وطاقات كبيرة لتجاوزه. طبعاً لا يوجد دولة في العالم الثالث مستقلة استقلالاً مطلقاً، لكن هنالك حداً أدنى يمكن تأمينه. ورغم ذلك، هذه ليست أولوية في ظل وجود قضايا أكثر إلحاحاً كالمعتقلين والمهجرين والشعب الذي بات 80% منه تحت خط الفقر، والفساد. هذا التحكم الخارجي بالأمور، لا يعني أن دورنا قد انتهى ولا يعفينا من المسؤولية. واجبنا أن نستمر لو حتى ضمن الحدود الدنيا الممكنة".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024