توجس فرنسي من بوريس جونسون.. والصحافة تصفه بـ"المهرج"

حسن مراد

الأحد 2019/07/28



تولي بوريس جونسون رئاسة الحكومة البريطانية كان حدثاً فرنسيا بامتياز. فوصول هذه الشخصية إلى هذا المنصب من شأنه إضعاف الاتحاد الأوروبي اقتصادياً وسياسياً، وهو أمرٌ يصيب فرنسا في صميمها كونها العصب السياسي للاتحاد.

التقدم الذي يحرزه حزب التجمع الوطني على الصعيد الداخلي الفرنسي يقض مضجع الحكومة والأحزاب الفرنسية الأوروبية الهوى. بمعنى آخر، تَسَلُم جونسون لمقاليد الحكم في بلاده قد يعطي زخما إضافي لمارين لوبان وحزبها.

لهذه الأسباب واكبت الصحافة الفرنسية هذا الحدث باهتمام شديد ضمن تغطية يمكن تجزئتها إلى مرحلتين: الأولى بعد فوز جونسون بزعامة حزب المحافظين، أما الثانية فكانت عقب تكليفه رسمياً تشكيل الحكومة. اللافت في كلا المرحلتين أن السواد الأعظم من الصحف قارب التطورات البريطانية من الزاوية نفسها.

نظرة الصحافة الفرنسية للأحداث البريطانية كانت بعين "البريكست" حصراً، في محاولة لاستشراف انعكاس وصول جونسون إلى مركز القرار البريطاني على مسار خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي. بالمقابل لم تحظَ باقي الملفات التي تنتظر رئيس الوزراء الجديد، كالتوتر المستجد مع إيران، إلا باهتمام ضئيل.

فمنذ ثلاث سنوات والمواطن الفرنسي يتابع الحياة السياسية البريطانية على إيقاع مفاوضات لندن مع الاتحاد الأوروبي حول الآلية الإجرائية "للبريكست". فخلافة جونسون لتيريزا ماي جاءت عقب رفض البرلمان البريطاني، للمرة الثالثة، المصادقة على الاتفاق الذي توصلت إليه ماي مع الاتحاد الأوروبي، اتفاق يهدف إلى تنظيم العلاقات والتبادل بينهما لا سيما على المستويين الاقتصادي والتجاري.

انطلقت الصحف في تغطيتها من تعهد جونسون بالانسحاب من الاتحاد في الموعد المتفق عليه، أي 31 تشرين الأول / اكتوبر المقبل، سواء تم ذلك باتفاق أم لا، فرئيس الحكومة الجديد يسعى لإعادة التفاوض على عدد من المسائل والنقاط.

سيناريو "البريكست دون اتفاق" يشكل هاجساً لأوروبا، لكنه أثار ردود فعل بدت حازمة إزاء هذه الرغبة، ما يعني رفض الخضوع لهذا الابتزاز. ميشال بارنيه، كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي حول "البريكست"، غرد أنه "يتطلع للعمل مع جونسون لتسهيل إقرار الاتفاق".

في هذا الإطار يتوجب التوقف عند مسألة أساسية تتعلق بولاية رئيسة المفوضية الأوروبية الجديدة أورسولا فون دير لاين، إذ لن تتسلم مهامها بصورة رسمية إلا في 1 تشرين الثاني أي في اليوم التالي لانقضاء المهلة المتفق عليها مع لندن للانسحاب من الاتحاد. وعليه، نحن أمام واقع مؤسساتي أشبه ما يكون بتصريف الأعمال، بمعنى آخر من المحتمل أن يمتنع من هو اليوم في مركز القرار الأوروبي عن إعادة فتح باب المفاوضات.

وسط هذا النزال بين لندن وبروكسل (العاصمة السياسية للاتحاد الأوروبي) ، لم ترغب أي صحيفة فرنسية في ترجيح كفة أي من السيناريوهات المطروحة. لكن التشاؤم كان سيد الموقف في الوسط الصحافي الفرنسي، اتضح ذلك عبر تحليل الصحف لشخصية جونسون من خلال سرد سيرته الذاتية.

لم يتوانَ بوريس جونسون عن بث أخبار مضللة لتشويه صورة الاتحاد الأوروبي بعيون البريطانيين، سواء خلال عمله مراسلاً لصحيفة Daily Telegraph في بروكسل أو توليه رئاسة بلدية لندن وحتى إبان الاستفتاء على "البريكست". أشهرها ادعاؤه أن الاتحاد ينوي فرض "شروط تقنية" بخصوص درجة انحناء الموز، أو اعتماد تصاميم جديدة للتوابيت ومنع الأطفال دون الثامنة من نفخ "البالونات"، ادعاءات غير صحيحة لم تدخر الدوريات الفرنسية جهدا في استحضارها.

من جانب آخر ركزت الصحف أيضاً على التقلبات في مواقف جونسون السياسية. فرئيس الوزراء البريطاني الجديد الذي سطع نجمه بعد تزعمه لحملة التصويت ضد بقاء بلاده في الاتحاد، كان أطلق في السابق مواقف تغزل فيها بمكاسب لندن من هذه العضوية. حتى الحجج التي قدمها خلال حملة "البريكست" افتقدت للدقة وللمصداقية.

مسيرة مهنية وسياسية أثارت شغف الصحافيين الفرنسيين ليسقطوا عليه جميع الصفات المشينة: من وصفه بالمهرج وفقاً ل صحف ومواقع اخبارية، إلى اتهامه بالنرجسية والشوفينية والعنصرية، اتهامات موثقة في جميع مقالاته واطلالاته التلفزيونية. وفقا للصحافة الفرنسية، يمكن توقع أي خطوة من شخص بهذه الصفات، فاحتمال "تهور" جونسون باتجاه الخروج من الاتحاد الاوروبي دون ابرام اتفاق مع بروكسل وارد جدا. 

الصحيفة الوحيدة التي تمايزت بعض الشيء كانت .Le Figaro فتحت عنوان "بوريس جونسون: مهرج أم رجل دولة؟" اعتبر ماتيو بوك-كوتيه، الأكاديمي الكندي المدافع بشراسة عن الهوية الوطنية والسيادية للدول، بأن هناك تحاملاً على الرجل لمجرد رفضه الخضوع لبروكسل والنخبة "التكنوقراطية" على غرار أقرانه من رؤساء الدول والحكومات، مع اعترافه بشخصيته التي تسهل توجيه سهام الانتقاد له.

بالمقابل، تدرك الصحف الفرنسية جيدا أن مسار الأحداث  ليس متروكاً لأهواء جونسون. فالأغلبية النيابية التي يملكها ضئيلة جدا، يضاف إليها إعلان عدد من نواب حزب المحافظين رفضهم الموافقة على خروج بلادهم من دون اتفاق. كذلك المدة الزمنية المتبقية للموعد النهائي للانسحاب ومواقف احزاب المعارضة. عوامل قد تدفع الأمور نحو انتخابات نيابية مبكرة ما يحيلنا إلى المرحلة الثانية من التغطية: هل هو جادٌ حقا في الالتزام بتاريخ 31 تشرين الأول أيا يكن الثمن؟  

 للإجابة عن هذا السؤال، انتظرت الصحف الفرنسية، وباهتمام بالغ، معرفة من سيحيط بجونسون من وزراء وفريق عمل لتعود وتُجِمع على أن رئيس الحكومة البريطانية اختار وزراء معادين للاتحاد الأوروبي، حتى شبهت الـ Le Monde التركيبة الحكومية  "بحكومة المواجهة" ما يؤكد عزمه على المضي بما اعلنه.

لكن الشخصية الأبرز التي توقفت عندها الصحافة الفرنسية هي دومينيك كامينغز مستشار جونسون الجديد. تعيين كامينغز، منسق حملة "البريكست" خلال استفتاء عام 2016، في هذا المنصب هو خير دليل على استعداد جونسون للانتخابات المبكرة منذ الآن. أمرٌ لا يدع مجالاً للشك بالنسبة للـ Libération التي عنونت الأمر. فإذا ما تمسك الاتحاد الاوروبي بموقفه الرافض إعادة النظر بالاتفاق المبرم من جهة، وتمسك غالبية النواب البريطانيون برفض انسحاب بلادهم دون اتفاق من جهة أخرى، لن يكون أمام جونسون خيار سوى الانتخابات المبكرة التي سيخوضها بالأسلوب الذي خاض به حملة "البريكست" قبل ثلاث سنوات: الارادة الشعبية في مواجهة "النخب الحاكمة".

لا تزال الصحف الفرنسية على موقفها القديم حول مخاطر انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي عامة ودون أي اتفاق خاصة. بالمقابل نلاحظ أنها رمت الكرة في ملعب جونسون، لتضع القارئ في مزاج يعتبر التبعات السلبية لأي خطوة من هذا النوع مسؤولية تتحملها الحكومة البريطانية دون سواها.

خلف كل هذا "التهويل" يمكن استشعار مزاج آخر وهي رغبة الصحف في ألا تسلك الأمور مساراً إيجابياً بالنسبة للاقتصاد البريطاني. فنجاح لندن في الخروج بأقل خسائر ممكنة من شأنه إعطاء دفع لباقي الأحزاب الشعبوية في أوروبا لتحذو حذو بريطانيا، أما الانسحاب في إطار اتفاق فمن شأنه الدلالة على أن شبكة المصالح التي باتت تربط أي دولة عضو بالاتحاد تجعل من الحفاظ على العلاقة مع بروكسل شأنا استراتيجيا لا مفر منه.  

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024