"مسافة أمان": دراما النكد

وليد بركسية

الأربعاء 2019/05/22
خلال السنوات الأخيرة، تحول الممثل السوري حسام عيد، رغم غيابه النسبي عن العمل الفني، إلى "ميم" يرمز للنكد في مواقع التواصل الاجتماعي، عطفاً على كمية البؤس التي يحرص على ضخها في كافة أدواره، بما في ذلك تلك الكوميدية التي قدمها خلال مسيرته المهنية. 


ولعل عيد هو بالتحديد ما كان ينقص مسلسل "مسافة أمان" كي تكتمل دراما النكد التي يقدمها العمل وتعرضه قنوات عربية في رمضان الجاري.

وامتلأت الحلقات الأولى التي عرضت حتى الآن، بكمية متتالية من البؤس: اختطاف، وجريمة قتل، ومحاولة تنفيذ عملية قتل جماعي في مشفى عبر الغازات السامة، وأمهات فقدن أطفالهن، وتنمر، وسرقة، واعتداء على أطفال بالضرب، وحتى خيانة عاطفية وانفصال قبيل زفاف، وغيرها من الأحداث المترافقة مع موسيقى شجن حزينة تتردد في الخلفية طول الوقت، لإشاعة جو إضافي من التأثير في المسلسل الذي كتبته إيمان سعيد وأخرجه الليث حجو.

لا يمكن تخيل سبب مقنع يدفع أحداً لمتابعة ما يقدمه العمل، لسبب بسيط هو أن النكد فيه يبدو غاية وليس جزءاً من قصة عامة تحدث للأبطال الذين يتعاطف معهم المشاهد إلى أن يخرجوا من أزمتهم. ويعني ذلك أن العمل يحاول تلقيم مشاهديه فكرة أن الوضع في سوريا مؤسف ومُزرٍ إنسانياً، بعد سنوات الحرب المتتالية في البلاد.

لكن تلك المقولة مهما كانت "نبيلة"، فإنها تبقى ناقصة لأسباب عديدة. فمن جهة، تعتبر تلك النتيجة معطى عاماً يدركه كل إنسان في الكوكب تقريباً. ومن جهة ثانية، تبدو قصص الشخصيات باهتة ولا تستحق التعاطف، ضمن هذا السياق، لأن هنالك قصصاً أخرى أكثر تأثيراً، أبطالها آلاف السوريين الذين قتلوا واختفوا في المعتقلات مثلاً أو دُمّرت حياتهم بفعل الحصار والبراميل المتفجرة وغيرها، بعكس الشخصيات الجالسة في بيوت فارهة تشتكي الظروف. ويبرز التحيز في العمل، بدليل غياب أي إشارة لذلك القسم من الشعب السوري والمتسبب في مأساته الإنسانية.

ولا يعني ذلك أن القصص التي تجري في مناطق النظام السوري، كالعاصمة دمشق، لا تستحق التعاطف، بل المشكلة هي في طرح كل هذا المأساة الإنسانية وتصويرها مجردة على أنها المشكلة الأكبر في البلاد، ثم تقديم الانطباع بأن كل ما يحصل هو نتيجة للمعارضة الإرهابية، "لأننا كنا عايشين من قبل" حسبما تكرر الشخصيات، رغم أن كل العوامل الشريرة التي تحصل ضمن هذا الإطار في الواقع، بعكس المسلسل، تعود للنظام نفسه المسؤول عن انفلات الأمن وسطوة الميليشيات المرتبطة بمسؤولين رسميين. وهو ما يدفع إلى تصنيف العمل كجزء من بروباغندا رسمية أكثر من كونه دراما مستقلة، مثلما تم الترويج له كمسلسل "جريء" و"ناقد"، علماً أنه من إنتاج شركة "إيمار الشام" التي يمتلكها رجال أعمال مقربين من النظام.

مشاهدة حلقات المسلسل تحيل إلى تساؤل متكرر حول الغاية من الفن والهدف منه، وسواء كانت الإجابة هي التسلية أم الرغبة في تقديم منتج جميل أو تقديم صورة عن الواقع أو التوثيق أو المشاركة الجماعية حول حدث ما، أو كان نشاطاً فردياً أو تنفيساً للغضب الشعبي أو غيرها، فإن كل تلك الاحتمالات تبدو غير مناسبة للمسلسل، ما قد يجعل تصنيف الفن غير متناسب مع العمل نفسه، لأن قيمة وحيدة يمكن ملاحظتها تطغى في العمل، وهي استغلال أوجاع الناس من أجل إيصال رسائل سياسية، لا إنسانية.

من الرسائل البارزة في العمل، تصوير كره شعبي للمعارضة السورية، بما في ذلك المعارضة السلمية. فشخصية أم مروان، التي تجسدها وفاء موصللي، تكره ابنها الأكبر لأنه "غرر" بابنها الثاني نحو التظاهر السلمي قبل اعتقاله واختفائه، بدلاً من كراهية النظام الذي يشرف بشكل ممنهج على عمليات الاعتقال والاختفاء القسري في البلاد منذ سنوات، حسبما تؤكد تقارير دولية، كان آخرها تحقيق صحافي أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، في وقت سابق من أيار/مايو الجاري. وحتى مسألة استخدام الأسلحة الكيماوية في البلاد، أحيلت إلى جماعات معارضة مسلحة تريد مهاجمة الأبرياء في المشافي، رغم أن العكس تماماً يحصل في الواقع.

ولا تنتهي تلك الرسائل بالحديث عن اللاجئين السوريين في أوروبا الذين يشعرون بالندم من خيار اللجوء، الذي حصل لأسباب اقتصادية لا سياسية، ويشعرون بالحنين لـ"الوطن"، عبر شخصية جلال التي يلعبها الممثل جلال شموط. بل تتعدى ذلك لتقديم إحصائيات عن حالات الخطف التي تقوم بها الجماعات المعارضة، وعدم تقديم مساحة مقابلة للحديث عن حالات الاعتقال التعسفي التي يقوم بها النظام بحق موالين ومعارضين له على حد سواء، رغم وجود شخصيات تعاني تلك المشاكل، بما في ذلك شخصية يوسف التي يجسدها، ببرود، الممثل قيس شيخ نجيب، ويظهر لوهلة وكأنه يعاني رهاب من الأمن السوري اللطيف الذي لا يفكر حتى باعتقاله أو وضعه في لوائح المطلوبين، بل على العكس، يتعامل مع جميع المواطنين برُقيّ منقطع النظير!

في ضوء ذلك يميل الممثلون للمبالغة في الأداء، من الصراخ المستمر إلى الانفعال الجسدي المجاني، بما في ذلك أسماء بارزة كسلافة معمار. ولعل الممثلة الوحيدة التي تكسر هذه النمطية المرهقة، هي النجمة كاريس بشار التي لا تحاول اصطناع البؤس أو تضخيمه بقدر ما تعطي جانباً فكاهياً خفيفاً لشخصيتها عبر لعبها ببراعة على ردود أفعالها، لكن ذلك الجهد المميز لا يكفي وحده لخلق التوازن المفقود في بقية العمل. كما تجب الإشادة بالممثل جرجس جبارة، الشهير بأدواره الكوميدية، ويظهر بأداء مبهر، لأن الحزن الذي يتبلسه يبدو نابعاً من داخله كانعكاس للحرب والشيخوخة وتقلبات الحياة، بعكس الأداءات الخارجية الهزيلة لبقية الأسماء المشاركة في العمل.

ولعل الخيار الأسوأ في العمل هو وجود راوية للأحداث، تؤدي صوتها الممثلة شكران مرتجى، من دون تقديم أي إضافة درامية تذكر. وربما يحاول العمل استنساخ فكرة التعليق الصوتي من مسلسل "قلم حمرة" للكاتبة يم مشهدي والمخرج حاتم علي، متناسين أنه كان خياراً درامياً ضرورياً لأن كثيراً من الأحداث فيه تحدث في عقل بطلة المسلسل المثقفة بأسلوب أقرب لتدفق الوعي المستمد مدارس أدبية معروفة.

ومع غياب هذا العمق، يعطي التعليق في "مسافة أمان" انطباعاً بأن أصحابه يحاولون تقديم تعليقهم على الأحداث لدفع أفكار المشاهد "غير الواعي" نحو اتجاه دون الآخر. وإن لم يكن ذلك جزءاً من منهجية شمولية، فهو بالتأكيد أسلوب متغطرس ومعيب، لكونه ينظر للمشاهد باستعلاء واستخفاف، ولا يستحق بالتالي سوى الازدراء.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024