لسنا مُنبَتين عن هذا الوطن

حسن فحص

الإثنين 2020/05/11
لم أتابع حيثيات مضبطة الاتهام التي ساقها رئيس المجلس الوطني للإعلام، عبدالهادي محفوظ، ضد كل من جريدة "المدن" الالكترونية وموقع "جنوبية"، ولا السيوف التي أخرجها من دوّنوا له تلك المضبطة من قرابها، عارضين نصالها لتلمع تحت الشمس بوجه كل من يسول له قلمه أو عقله اقتراف النقد والمعارضة والتمايز، لكن يكفيني أن أعرف أنني من زمرة الذين يرفضون أن يكونوا في قطيع غير قطيع البحث عن الحقيقة والراعي الحكيم، وممن هم ليسوا منبتين "إن المنبت لا ارضا قطع ولا ظهرا أبقى – النبي محمد" عن الناس وهمومهم ومخاوفهم وآمالهم وقلقهم. 


ما استوقفني في المضبطة التي تلاها الأستاذ محفوظ، محاطاً بفريسيي الهيكل وهيئة المحلفين وجنود حرب الردة الهازين برؤوسهم ولاءً وتبعية، انها صوبت سهامها الى هذين الصوتين في الإعلام الرقمي اللذين أعلنا انحيازهما لعدم الممالآت والتطبيل، واختطا لنفسيهما حيزاً بين الحقيقة والجرأة، متبعدين عن الاستعراض والإثارة لكسب الجمهور كما يفعل آخرون.

قد لا أوافق على كثير مما ينشر في صفحات هذين الموقعين، وقد أوافق على الكثير أيضاً مما ينشر فيهما، إلا أنهما، والحق يقال، لطالما شكلا مساحة بيضاء للصوت المختلف العقلاني والعقلائي الذي لا يبحث عن المغايرة من أجل الإثارة او رفع نسبة الجمهور والمتابعين، بل شكلا محاولة للإضاءة على مكامن الخطر التي تكتنف مسيرة المكونات اللبنانية السياسية والطائفية ومدى خطورتها على مستقبل لبنان وعلى البيئات التي تشكل حواضن لهذه المكونات، خوفاً من أن تخرج من الوطن وما يعنيه من مساحة مشتركة مع الآخرين، على العكس من الوظيفة التاريخية التي شكلت دورها "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين"، وأن تخرج الوطن بإرادة طرف لتضعه وتجعله محطة على طريق مصالح الاخرين.

إن من وظائف المجلس الوطني للاعلام، التي تناساها رئيسه على ما يبدو، بالإضافة الى الأمور التنظيمية والمراقبة والحفاظ على الثوابت الوطنية في الاعلام وعدم اثارة النعرات الطائفية، هي الحفاظ والدفاع عن الحريات وحق التعبير تحت المندرجات السابقة ومنع السلطة من ممارسة الإرهاب ضد وسائل الإعلام التي تسعى، كما هو دأبها في أي مكان أو زمان، لإسكات المنتقدين وترهبيهم وترغيبهم وكسر أقلامهم لمنعها من التصويب على مكامن الخلل والخطر التي تهدد الوطن والمجتمع بكل مستوياته وطبقاته وتجمعاته وجمعياته.

إن الخلاصات التي انتهى اليها بيان رئيس المجلس الوطني للإعلام، بتهديد "المدن" و"جنوبية" بالويل والثبور، تجعل منه أداة في أيدي الجماعات اللبنانية الطاردة، التي يضيق صدرها بمن سواها وسوى الموالين لها أو الساكتين عنها، ومثلهم كمثل الاعرابي الذي صلى خلف الرسول ثم رفع يديه بالدعاء "اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا"، متناسين أن هذا الوطن واسع بحيث يتسع للجميع بكل تنوعاتهم وتنويعاتهم، وغاضين الطرف عن رد الرسول على هذا الاعرابي بقوله "لقد حجرت واسعاً". فاذا ما حجرت على آخرين، انما تحجر على نفسك وتخرجها من هذه المساحة الواسعة الحاضنة لك ولغيرك.

لا شك ان الجهة التي حركت وحرضت على "جنوبية" و"المدن"، وانطلاقاً من خصوصية تعامل هاتين الوسيلتين الاعلاميتين مع المسألة اللبنانية وقضاياها، انما هي واحدة من اثنتين موزعتين على ثلاثة قوى، وهذا لا يعني تبرئة القوى الأخرى من محاولة مضارعة فعل هذه القوى الآن لو أن لها سلطة على هذا المجلس ورئيسه، أو كان لها عليهما دالة أو فضل، فهذا هو ديدن من في موقع القدرة في لبنان مع جميع المؤسسات والادارات وادارتها بعقلية المزرعة والاملاك والشركات الخاصة.

ومن باب ما جاء في الارشاد الرسولي – رجاء جديد للبنان، لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني حول لبنان، من انه "وبحكم هذه الجذور الدينية للهوية اللبنانية الوطنية والسياسية"، فإن كان المحرض التيار المحسوب على رئيس الجمهورية، فمن المناسب التذكير بما قال بولس الرسول في رسالته الثانية الى تيموثاوس (2:24) "وَعَبْدُ الرَّبِّ لاَ يَجِبُ أنْ يُخَاصِمَ" او ما جاء في رسالته الاولى الى اهل كورنثوس (4:12) "نُشْتَمُ فَنُبَارِكُ. نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِلُ"، ان يحلو لهم استعادة محاكم التفتيش.

اما اذا كان من حرض هو الجماعة الشيعية بثنائيتها، كون من يتولى هذين المنبرين من البيئة نفسها، اما سمعوا قول الامام علي بن ابي طالب "اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق" وكيف تعامل مع ذاك الخارجي الذي نعته بالكفر فقال لاصحابة عندما وثب اصحابه ليقتلوه فقال لهم "رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ".

أقول لساطع نورالدين وفريق عمل "المدن"، ولعلي الأمين وزملائه في "جنوبية"، أنا لست ممن يحب المتملقين، بل امقتهم، وما اكتبه هنا ليس من باب محاولة تسجيل موقف دفاعاً عن زملاء في مهنة الاعلام، أو عن موقعين أكتب لهما، لأكون في عداد من تهافت ليقول كلاماً في الاعتداء على ما تقومون به من دور، بل دفاعاً عن نفسي وعن أناس أعرف تفاصيل قلبيهما وعقليهما وكيف يحبان ويصادقان، وقد شكلا محطات في تشكيل ذاكرتي الخاصة والعامة، منذ ان نشأت طفلاً وعلي على رمال النجف اللاهبة، وبدايات تشكل وعيي بالاعلام برفقة والدي في أروقة "السفير" ومكتب ساطع فيها. وأقول لهما: لبنان على الرغم من انهم حولوه الى طارد ونابذ، فهو أكثر من أحزاب وأكبر من جماعات. فلا تخافا، ودعونا لا نفقد ايماننا ورجاءنا بهذا الوطن، فإما ان ننهض به ومعه سوياً لأو يسقط ونسقط معه، ولن نسمح بأن يسقطه فسادهم ويسقطونا في غياهب الصمت على ما لا نراه صواباً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024