"باب الحارة": محاولة تقويض "داعش" تشرعن قيمها!

أحمد الخليل (دمشق)

الثلاثاء 2014/07/08

حين عرضت الفضائيات العربية الجزء الأول من مسلسل "باب الحارة" كعمل ينتمي إلى "البيئة الشامية"، بدا كأنه تكريس للقيم الطالبانية، ولم تكن الثورات قد قامت بعد. فالمنظومة الإجتماعية والسياسية التي يحملها العمل، تنتمي بشكل غير مباشر للأنظمة السياسية العربية التي تحرص على تأبيد التخلّف بكل أشكاله، لذلك تعرضه المحطات كافة وفي أوقات الذروة الرمضانية. تأتي هذه القيم في سياق حكاية شعبية جذابة، فيها غموض وتشويق وإثارة ممزوجة بمناهضة الاستعمار والغرباء عامة، ما يؤدي إلى دغدغة المشاعر الإسلامية خصوصاً في ظلّ فشل أنظمتنا العربية بكل مشاريعها التنموية والوطنية والثقافية.

الفكرة المركزية في الحكاية – الدراما، هي ثنائية الزعيم – المفتي (الشيخ). والحارة المغلقة المسوّرة، التي يرعاها زعيم أكبر سناً، ويتحلّى بالحكمة واحترام أهل الحارة، يحكمها أيضاً "العكيد" - القبضاي أو "الفتوة" الشاب والشجاع الذي لا يأتيه الباطل من أمام أو وراء. الجميع مطيع للزعيم الحكيم الذكي، وكلمته هي الكلمة الفصل في أي مشكلة، تماماً كما ساعدَي "العكيد" المفتولين. وحين يغيب الزعيم، تتعرّض الحارة للمشاكل والإختراق الخارجي، ما يؤدي للإرتباك. أما الشيخ فيحتكر المعرفة الدينية، ويلعب دور صلة الوصل مع السماء. وهو المستشار الروحي والديني للزعيم، ويساهم في حل ما يعترض الأسر والأهالي في أمور الزواج والطلاق وتعدّد الزوجات...

في الحارة، لا اختلاط بين الجنسين. فالمرأة سيدة البيت، تطبخ فقط وتهتم بالأولاد وتطيع زوجها بشكل مطلق (حاضر ابن عمي). وبناتها خادمات لذكور العائلة، ينفذن ما يطلب منهن بلا نقاش. وممنوع عليهن الخروج إلا بالعباءة والملاية. كل زيجات الحي تتمّ عبر الداية التي "تروج" الفتاة المناسبة لطالب الزواج.. وإذا حدث أن كانت هناك مدرسة للصغار، فهي لتعليم القرآن وأمور الدين، مع حجاب كامل للفتيات الصغيرات، كما هو حال نظام طالبان وتقاليد بعض دول الخليج الممولة لهذه الأعمال جميعها. أما الأنظمة التي تدّعي العلمانية، فتحرص محطاتها على عرض العمل والاحتفاء به، لأنه حامل "لطيف" لمنظومة الاستبداد، حيث القائد العظيم الأبدي الذي يقود الحارة (الوطن)، يتنقل من نصر إلى نصر... 

ولو أجرينا مقارنة قسرية بين مجتمع "باب الحارة"، وما يحدث في الرقة التي يسيطر عليها تنظيم "داعش"، سنصل إلى أن المسلسل لا يعدو كونه معادلاً فنّياً لما يجري في الشرق والشمال السوري، سواء في قضايا السياسة أو المجتمع. من يتابع فرمانات وتعاميم "داعش" وأمثالها، يرصد التماثل مع كل ما يطرحه العمل من أفكار ورؤى وسياسات تعود إلى زمن العبودية الدينية حيث الحاكم، أو أمير المؤمنين هو (المالك الملك الإله) بحسب تعبير د.طيب تيزيني.

من ناحية ثانية، ينسف العمل وأمثاله (الدبور- حمام شامي- الغربال...) كل القيم المدنية والمدينية التي أنتجها المجتمع، وتحديداً الشامي منها في تاريخه، حيث الجامعات والتظاهرات والإنتخابات والديموقراطية والنقابات والأحزاب والمكاسب التي حصّلتها المرأة خلال السنوات المئة الأخيرة. ويوحي، عبر حكايته الجذابة، بأن ما يطرحه العمل هو ما حدث تاريخياً بالإستناد إلى الطراز المعماري والإكسسوارات والأعلام والمفردات والحوارات. فما نشاهده هو أحداث، يظنّها المشاهد موثقة، تنقلها لنا مخيلة مريضة، ورؤية مخرج تجسّد الإنغلاق وكره الآخر، وبأننا مجتمع مثالي ما دام الباب مغلقاً أمام "المندسّين" ومخربّي التماسك ومكارم الأخلاق.

ومن ناحية أخرى، تكرّس هذه الأعمال العنف والقتل بأبشع صورة. ففي كل حلقة، تتكرّر مفردات القتل والذبح و"الشخت على البلوعة" والثأر، بعيداً من أي مفهوم حقوقي قانوني مدني (رغم أن "أبوعصام"، في "باب الحارة"6، نهر ابنه "العكيد معتز" عن قطع يد سارق قبض عليه صدفة، ونهاه الشيخ أيضاً عن الفعلة "لأننا في بلد فيه قانون.. وإلا فالله يحاسبه"، إلا أن النوايا السياسية مفضوحة هذه المرة: النظام السوري يسعى إلى التمايز عما يُتداول من ممارسات "داعش"، ولو أنه في الواقع يرتكب أفظع من ذلك في معتقلاته). وليس خافياً على أحد إن الجزء السادس من "باب الحارة" يرمي إلى تقويض الثورة السورية، بدءاً من "علم الانتداب"، الذي كان يظهر في الأجزاء السابقة إلى جانب العلم الفرنسي، واختفى في الجزء السادس، وصولاً إلى عبارات "تسامحية" من نوع "كل مين على دينه الله يعينه" حينما يكون الحديث عن سوريين غير مسلمين.

والحال، إن ما يقرّره الزعيم والشيخ، يُنفّذ لكونهما السلطة العليا المفكّرة والمدبّرة المحنّكة. وما مجلس القضاوات والاستشارات الكوميدية، إلا صورة مصغّرة عن مجالس الشعوب العربية التي تتغنّى بآراء القائد الرمز. لذلك حرصت الجهات المنتجة، الخليجية والمحلية، على استمرار سلسلة "باب الحارة" وأعمال أخرى، وعرضها على اعتبار التلفزيون أن هو الجهاز الدعائي والإعلامي الأكثر تأثيراً في المجتمع العربي، حيث الأمّية غالبة بشقيها التعليمي والثقافي. كما تعدّ هذه الأعمال الأكثر بذخاً من الناحية الإنتاجية، فأجور الممثلين والديكورات وكل مستلزمات المسلسل هي الأعلى بين سائر الأعمال المعاصرة.

من هنا نرى تهافت المخرجين والممثلين والكتّاب على محاكاة "باب الحارة" وتفريخ أعمال شبيهة، كمنفعة إقتصادية أولاً، بعيداً من متعة الفنّ ودوره الاجتماعي التنويري. وتتشابك هذه المصلحة مع مصلحة الحكومات الفكرية والسياسية ودغدغة مشاعر الناس الدينية، عبر استغلال خيبات الآمال وفشل الحداثة الفكرية والسياسية، ما يؤدي إلى العودة إلى زمن العزة والقوة وتاريخ مضمّخ بالفتوحات والنصر المبين. وما كان ذلك ليحصل لولا التمسك بأهداب الدين ومكارم الأخلاق المؤسّس على قاعدة سياسية ما زالت هي الحاكمة هنا:"أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024