دَمُك يا موالي

قاسم مرواني

الأربعاء 2019/09/11
انطلقنا من بيروت في الصباح الباكر، كنت أصطحب صديقتي إلى مدينة النبطية حيث أرادت التقاط بعض الصور لمراسم عاشوراء هناك. طوال الطريق، استمعنا إلى أناشيد تتوافق مع المناسبة، أمامنا سيارة ترفع راية "يا حسين"، رافقتنا طوال الطريق، ورفعنا صوت الأناشيد: "لم أجد مثل تلك عروس علي، مهرها قتل وقطع المنحري".

مراسم عاشوراء، كما عرفتها وعشتها في طفولتي، كانت عبارة عن مجالس عزاء بسيطة، تُقام في المنازل أو في حسينية القرية، وأكبر حدث شهدته هو المسرحية الصغيرة التي كانت تقام في قرية مجدل سلم. وصلنا إلى النبطية باكراً، ركنّا السيارة واتجهنا إلى حسينية القرية، مجموعات صغيرة متفرقة من الناس تتوزع هنا وهنا، إجراءات أمنية مشددة وخيم للصليب الأحمر.

تعلو حسينية النبطية، راية "يا حسين السوداء"، وفي باحتها، تفرقت مجموعات من الشبان يرتدون الأبيض، يقف رجل عجوز وسط الباحة يحمل شفرة. ثم بدأوا يتوافدون، رجال يقتربون من الرجل العجوز، يسلمونه روؤسهم فينهار عليها بالموسى، يضربونها براحاتهم استجداءً للمزيد من الدماء، بعضهم أحضر معه أولاده، تبدأ الرؤوس بالتناوب تحت الموسى، أطفال من مختلف الأعمار، يبتسم لهم الرجل العجوز، يمسك روؤسهم بين يديه وينهال عليها بموسه، تبدأ الدماء بالتطاير، أتساءل على كم من الرؤوس مر هذا الموسى منذ عشرات السنين إلى اليوم.

في لحظات معينة، أصبح المشهد مألوفاً جداً. آباء وأطفال يقفون أمام الكاميرات ليلتقطوا صوراً لرؤوسهم المدماة بالدماء، بكل فخر واعتزاز. كانت صديقتي كلما صوبت الكاميرا اتجاه احدهم، وقف بخيلاء وزهو. حين كاد المشهد يصبح مملاً، انتهى وقت الأطفال، وبدأت جماعات من الشبان والرجال تدخل إلى الباحة، وانضم إلى العجوز رجال آخرون مع سكاكينهم. أتوا حاملين معهم سيوفهم الطويلة، يواسون الأرض بأقدامهم العارية، تعانق أجسادهم السمراء القاتمة أكفان بيضاء سرعان ما ستتحول إلى الأحمر. كانوا يدخلون الباحة ثم يخرجون منها برؤوس مدمّاة. وتستطيع، بينما تقف في الخارج، أن ترى أيديهم من البعيد، ترتفع في السماء ثم تهوي فوق الجراح على وقع هتافات "حيدر حيدر". كانوا كلما نزفوا أكثر، استجدوا المزيد، كأن السماء تنادي طالبة الدم، كأن الأرض عطشى لأجسادهم.

وأمام مشهدهم، شيء غريب راح يغريني بالتجربة. بحثتُ عن كفن، ثم وجدت نفسي أمام الرجل العجوز منحنياً، أزاح شعري قليلاً، ثم ضربني بالموسى، أصبحت واحداً منهم.

كانوا يخرجون من الحسينية وينضمون إلى المسيرات التي راحت تجوب شوارع المدينة، مسيرات متشابهة من البعيد لكنها من الداخل مختلفة جداً. هناك مثلاً الشيرازيون، موكب عشاق الزهراء، يضربون ظهورهم بالسلاسل إو بحبال تنتهي بشفرات حادة. موكب آخر أحضروا فيه مكبراً للصوت، وعلى أنغام موسيقى صاخبة تشبه موسيقى الرقص في النوادي الليلية، موسيقى إيرانية وهتافات يا حيدر ويا حسين، بدأوا يضربون صدورهم وروؤسهم، لطم استعراضي. مواكب للأولاد، بعضهم دون العاشرة، تسيل دماؤهم فوق جباههم، يحملون السيوف ويجوبون المدينة.

ولم يكن في المسيرات حزن ولا فرح، بل حالة غريبة من النشوة. كانوا مأخوذين بها ويضربون وجوههم وصدورهم، كأنهم يؤدون رقصة غريبة للألم. ومن بين الحشود، ظهرت ثلاث ناقات يمتطيها رجال سيمثلون أدواراً في المسرحية التي ستقام في ملعب قرب الحسينية، تروي واقعة كربلاء. مشينا خلفهم حتى وصلنا إلى خيمة للصليب الأحمر، طلبتُ منهم تعقيم الجرح في رأسي ثم عدنا إلى حسينية القرية. كانت مزدحمة جداً، وأرض الباحة تحولت إلى اللون الأحمر ورائحة الدم تملآ المكان، شممناها أينما اتجهنا في المدينة.

وقفتُ أستمع إلى هتافات الممثلين في الملعب، وأتفرج على الرجال بالأكفان، يضربون روؤسهم فتتناثر الدماء على وجهي. يقفون أمام الكاميرات ليلتقطوا الصور، بينما تسيل الدماء على وجوههم. هل يفعلون ذلك حزناً؟ أم أنها محاولة لإثبات شيء ما لا أستطيع فهمه؟ هل يشعرون أنهم نجحوا في إثباته كلما توجهت الكاميرا إليهم؟ كانوا لا يتوقفون عن التطبير، بعضهم طبر مرات عديدة وكلما صرخت السماء: "دمك يا موالي".. أجابها: خُذي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024