الوطن.. حيث تنتهي محاولات الهرب

آية الراوي

الثلاثاء 2020/02/18
أجلس في الصالون وأتأمل المصباح النحاسي المزخرف الذي اشتريته من شارع المعزّ في القاهرة... أمامي تمثال لعشتروت، وَجدتُه عند بائع أنتيكا في بعلبك، سجّادة كيليم من أمازيغ تونس، رمّانة فخار من تركيا، بوستر قديم لفيروز معلّق على الحائط، صور لشخصيات أحبها: محمد عبد الوهاب، شريهان بعدسة فؤاد الخوري؛ كتبٌ وبطاقات ووجوه، أشياء تكلّمني وأكلّمها، أنساها أياماً تحت رحمة الإهمال، وأيام أُخرى أخالها تصرخ في وجهي، تذكّرني بوجودها وكأنها تذكرني بوجودي. من خلالها أعيد تركيب ذاكرتي القصيرة، وتأريخ محطات أسفاري وأحلامي وخيباتي، شظايا امرأة كأي امرأة تبحث عن وطن داخلي تسكن إليه كلما ضاقت بها الدنيا. 

أستعيد نجيب محفوظ: "وطن المرء ليس مكان ولادته، لكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب". وقد اعتبر الكاتب هنا تلقائياً أن الإنسان كائنٌ هارب، وقد يختلف في طبيعة الهروب وهدفه لا غير. قد نهرب جسدياً، أي جغرافياً، أو نهرب رمزياً، مما في داخلنا أو إليه. قد نهرب من واقع يطحن حرياتنا أو يهدد حياتنا، وقد نهرب من ذكرى أو من شخص أو من حقيقة مؤلمة. في فيلم "الصورة"، للمخرج اليوناني نيكوس باباتاكيس، يهرب الشاب إيلياس من نظام الديكتاتورية اليميني في أوائل السبعينات، يهرب من قريته البائسة إلى باريس ليجرّب حظه في العمل، بعدما أمضى خدمة عسكرية أصابته بالجنون من شدة التعذيب لأنه ينتمي إلى عائلة شيوعية. يصل إلى باريس بحثاً عن قريب له يعمل في صناعة الفراء، وعند محطة "Bonne Nouvelle"، أي الخبر السار، يجد عنوان هذا الأخير ويعلمه بخبر وفاة والديه.

يستقبله الصانع أدونيس بقساوة في بادئ الأمر، لكنه يتبنّاه لاحقاً ويصبح مأواه وعرّابه الروحي. يقع أدونيس في حب صورة فوتوغرافية لفتاة، يحملها ايلياس معه كطلسم ويدّعي أنها أخته، اسمها باليونانية "فرح". يتبادل صانع الفراء الرسائل مع "فرح" الوهمية، وتقوم بانتحال شخصيتها والدة ايلياس بناءً على طلبه، فيقرر أدونيس، بعد احتراق منزله في باريس، أن يعود إلى اليونان بصحبة إيلياس لكي يلتقي بها ويتزوّجها. طبعاً، لم يجد أدونيس أي "فرح" بالعودة إلى قريته، كما لم يلقَ ايلياس نصيبه من النجاح في باريس بعدما نبذته الجالية اليونانية. الفيلم نهايته مأساوية وهو عبارة عن تراجيديا إغريقية، لكن بأحداث وشخصيات معاصرة، تنتهي بمونولوج لإيلياس يدعو المتفرّج إلى التفكير قبل الذهاب إلى أي مكان بحثاً عن السعادة.

هل ما نسعى إليه، أكان بالسفر أو بالعودة، هو مقدّر لنا؟ هل نبني أوهاماً وعلى أساسها نقوم بخطوات قد تغيّر مجرى حياتنا، ظناً أن القدر سيأتي بما نستحق؟ ويطرح الفيلم معضلة يعاني آثارها اللاجئ والمهاجر في كل البلدان: قبل سفره، يقول ايلياس لوالدته أنه لا يريد أن يضع نفسه "في فك الذئب"؛ يخاف من فرنسا، من المجهول، من المدينة والحداثة ووحشتها. فتجيبه: "من الأفضل أن تذهب إلى ذئب شبعان، ولا تكن قريباً من ذئب جائع سوف يلتهمك. ففي هذا العالم يا بني، أنت في فك الذئب أينما كنت". وهذا التشبيه نجده في شعر أحمد فؤاد نجم عندما وصف النظام بـ"غابة كلابها ديابة، نازلين في الناس هم". قد يختلف المكان، لكن طبيعة الإنسان هي هي، والأنظمة القامعة ذئاب تفترس أبناءها. يلجأ المخرج إلى الرمزية والسخرية والاستعانة بالسيميولوجيا لتجسيد مأساة المهاجر في عصر الديكتاتوريات والحروب.

ولا يختلف وضع المجتمع اليوناني كثيراً عن وضع مجتمعاتنا اليوم في زمن التحولات السياسية والأزمات المعيشية التي تدفع بالإنسان إلى البحث عما هو أفضل، مسيّراً كان أو مخيّراً. إما ان يلجأ إلى الذئب الشبعان أو يبقى مع الذئب الجائع. وفي الحالة الثانية، إما أن يروّضه، أو يقضي عليه، أو على الدنيا السلام!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024