إتهام المحتجين بالعمالة لاسرائيل: كمّ الأفواه والآمال

زكي محفوض

الأحد 2019/10/20


مع بداية حملة التخوين بعمالة المتظاهرين لإسرائيل، وهي الوسيلة المعتادة للأطراف العاجزة عن مجابهة أي تحرّك في لبنان ومحيطه، يزداد زخم الاعتراض على أوضاعنا المزرية وعلى مسبّبيها "كلّهم"، سواءً أكانوا في السلطة أم خارجها مع معاونيهم وأزلامهم.

لسبب "إلهي" ربّما، فـ"الإلهي" ليس حكراً على النصر وحده، اندلعت حرائق في كل لبنان عشيّة اندلاع التحرّك الحاشد ضد ممارسات السلطة وهيمنتها وزعبراتها وتخبطها في إدارة البلاد. وكأن تلك الحرائق كانت إشارة، خفيت على قارئي البخت، إلى ما سيحدث بعد أيام.

وبالفعل، مثلما اشتعلت الحرائق في كل المناطق، هبّت ألسنة لهب بشرية غاضبة على كامل مساحة الوطن، ولو كانت حدود مزارع شبعا مرسّمة لبلغتها أيضاً النيران البشرية. 

من بعيد، بدا المشهد في بداية التحرّكات ملتبساً، يبعث على الظن في أن كل "منطقة" تحتج على زعمائها وسياسييها. وهذا أمر مقلق، لأن "المنطقة" تعني "الطائفة"، وأن تتولى كل طائفة تنظيف نفسها يعني أن لبنان سيراوح مكانه ويبقى خاضعاً للطائفية، مثلما يخضع اللبنانيون لقوانين الأحوال الشخصية لطائفته.

وما عزّز هذا الظن الكلام "الكبير" الذي نُعتت به شخصيات كان مجرّد ذكرها في مظاهرات سابقة يكفي لإيفاد الزُمر لتشتيتها بالقوة مع القوى الأمنية. ومن الشخصيات التي تم تناولها بهذه العلنية والصراحة والشجاعة: الأستاذ نبيه برّي وعقيلته رندا الملقّبة بـ "سيّدة الـ 51%".

كنّا تعوّدنا على أن هذا الكلام محظور، ومن يقوله جهارة يُضرب ويُعتقل، مثلما حصل لـ"متهورين" انتقدوا السيد حسن نصرالله عبر الشاشات، ذات يوم، ثم اعتذروا عن فعلتهم الآثمة، عبر الشاشات ذاتها، بأصوات مبحوحة. أو، يكون المجاهِر في انتقاد الزعيم قد حصل على فتوى أو تصريح بذلك ضمن سيناريو مدروس لتحقيق مأرب ما.

غير أن سياسة كمّ الأفواه درجت عند كل الأطراف الذين ينتهجون الاستقواء على المستضعف، وهم كثر، ومن كل الميول السياسية والاجتماعية. ولعلّ في تحرّكات الساعة ما يمهّد لتغيير هذا النمط من المعاملة.

فهذه المرة، كانت النعوت من العيار الثقيل وصلت إلى حد الشتيمة والهزء. ومن يتجرّأ على قوله بهذه الفجاجة لا بد أن يكون من المحاسيب المصرّح لهم بذلك... ولكنّه، كما تبيّن لاحقاً، لم يكن من المحاسيب. كان من أصحاب القلوب المليانة الذين ضاقوا ذرعاً من استهتار أهل السلطة بهم.

أم لعلّه كان من "الشوارد"، وهم صنفان: صنف لا ينتفع من الزعيم و/أو الطائفة، وصنف آخر يرفض، يرفض ببساطة، الصيغة اللبنانية الحالية ويحلم بالمواطَنة ويطمح إلى دولة ناظمة ترعى شؤونه. وكلا الصنفين ضاق ذرعاً. وبنتيجة حسبة بسيطة يتبيّن أن هؤلاء جميعاً يشكّلون أكثرية عددية، ولكنهم يبقون شوارد في "العراء الوطني" محكومين بطوائفهم.

وغالبية هؤلاء الشوارد هم من الشباب المتبطّلين، ومنهم متعلّمون وأصحاب مشاريع معلّقة، الذين لا يجدون عملاً ولا أبواب مفتوحةً أمامهم سوى الديليفري والنارجيلة والواتسآب والدراجات النارية، فضلًا عن خدمة الأحزاب والزعماء أو الانخراط في أحد الأسلاك العسكرية... وقد ضاقوا ذرعاً من شحّ الخيارات. وكذلك هم الشباب الذين يسعون وراء تأشيرة سفر للهجرة إلى أي مكان، مستعدين للتشرّد خارج وطنهم، بينما منافذ السفارات تضيق عليهم. 

وهؤلاء مع المصرّين على البقاء في البلد مهما كان وبأي ثمن، هم الذين أدركوا، وها هم بدأوا يهتفون منذ أيام، أن لا خلاص لهم سوى بنشوء دولة لا تهاب مواطنيها وهم لا يهابونها، لأن العلاقة بين الطرفين لا تقوم على الخوف.

وبنتيجة ذلك، وضعوا كل الكيانات السياسية في سلّة واحدة: القوات والتيار العوني والاشتراكي وحزب الله والمستقبل وأمل والكتائب وغيرهم، وأخذوا يعاملونهم كشركاء سواسية في الفشل. هذه المرة، لم يحصل ما حصل في 2011، عندما اعتبر قسط من الحراك أن مجرّد التطرق إلى حزب الله هو مسّ بالمقاومة. هذه المرة لم يُرفع شعار سياسي، على الأقل في الهتافات على أنواعها والشتائم على عياراتها التي لا تزال تطاول شخصيات... بقي كل شيء حتى الآن مطلبياً.

وهو الأمر الذي دفع بأحزاب محسوبة على السلطة إلى أخذ خيار الشارع، كالحزب الاشتراكي، ولكن من دون تدابير عملية واضحة. وكذلك القوات اللبنانية عبر استقالة وزرائها، من دون استقالة نوابها. وقد قيل أنه (القوات) أبقى "رِجل بالفِلاحة ورِجل بالبُور"، على قول عامي توصف به عادة المواقف الملتبسة نتيجة إرباك أو دهاء سياسي (أو خبث). كثيرون تنبّهوا لهذا النوع من الالتفاف عبر استجداء مساحة بين المتظاهرين، وما سيحصل إثر ذلك متروك للأيام المقبلة.

الأحلى هذه المرة: مناظر الحشود ليلاً، بخاصة. تجرّؤ العزّل على المسلّحين... "قوِّص". تلك "الكنداكة" التي ركلت المسلّح... "قوِّص". الحاجّة المهيوبة التي ناشدت الشرطي صاحب العينين الجميلتين. قبلة وعناق وسط ركام وحريق. شد الأزر بين المدن اللبنانية، كما بين طرابلس وصور، في ما يشبه تنادي المزارعين بين الجلول. الشغب وكشف المندسين. التعاطف الحقيقي مع الذين اعتقلوا بطريقة همجية.

تغيّرت أمور كثيرة عن التحركات السابقة... فهل ينجح لبنان هذه المرة؟

المهم في هذه المرة أن ثمة أملاً في تناقص عدد الأغنام الذين لا يزالون يحاولون عبر السوشال ميديا رفض تعليق "الآخرين" على الزعماء خاصتهم، وفي أن الذين احتشدوا لن ينتخبوا كل الذين كانت له أي علاقة مع هذه الطبقة السياسية.
مع بداية حملة التخوين، يبقى الخوف من قمع مستورد من عند "الباسيج".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024